الرئيسية / ثقافة / النمل في زمن الوباء – تقاربٌ اجتماعي لا يخرّبه كوفيد

النمل في زمن الوباء – تقاربٌ اجتماعي لا يخرّبه كوفيد

الكاتبة اللبنانية الكاتبة عزة طويل

هكذا ينتهي بك الأمر حين تكون كائناً اجتماعياً، بأن تنفجر من الغضب

النمل في زمن الوباء – تقاربٌ اجتماعي لا يخرّبه كوفيد

 

لدى النمل القدرة على العيش ضمن مجموعة متعاضدة إلى درجة أن النملة تتخلّى كلياً عن فردانيتها في سبيل المجموعة. في المجتمع الرأسمالي المعياري، كلّ الأفراد أنانيون. أما في مجتمع النمل، فكلّ فرد هو جزء من مجموعة يعيش لخدمتها وليس لخدمة نفسه فقط”. النمل – برنار فيربير.

الكاتبة عزة طويل / لبنان

لطالما لجأت إلى الكتب في أقصى حالات الانطوائية التي كانت تصيبني، وذات مرة سحبت من مكتبة أمي كتاباً عنوانه “النمل”. كنت أشعر بوحدةٍ شديدةٍ يومها ولم أفكّر حتى في العنوان الذي انتقيته من بين كل العناوين المتاحة في المكتبة. ذهبت إلى غرفتي وبدأت القراءة  مفتونةً بما أقرأ. برع بيرنار فيربير في تصوير عالم النمل والعلاقات الاجتماعية التي تطبعه ومدى التقارب الذي يميّز هذه الكائنات. وفجأة غادرتني وحدتي ورحت أراقب النمل بين حروف فيربير وأتتبّع معه كل حركةٍ. واليوم، إذ عادت إليّ وحدتي في زمن كوفيد-19 والتباعد الاجتماعي، لجأت مجدّداً إلى عالم النمل. هي كائناتٌ لا تصيبك بالإحباط أبداً وتزرع في رأسك آلاف الأسئلة لا سيما أن ثمة رابطاً أساسيّاً يجمع ما بين النمل والبشر، وهو القدرة على التواصل والعيش ضمن نظامٍ اجتماعي، لذا تبدو المقارنة مفيدة.

النمل كائنٌ اجتماعي يتواصل عبر اللمس، والسمع، وعبر الإشارات الكيميائية. إذا وجدَت نملةٌ طعاماً، تحمل بعضه وتتوجّه إلى مسكنها لتحفظه هناك مطلقةً في طريقها إشاراتٍ كيميائية تدلّ عبرها بقية أعضاء مجموعتها إلى مكان الطعام. تتواصل النملة تلقائياً مع محيطها من دون أيّ تخطيطٍ مسبق، وتتعايش لتأمين حاجاتها الرئيسية من مأكلٍ ومأوىً وأمان. وفي سبيل ذلك أيضاً، تشنّ شعوب النمل حروباً مع شعوب نملٍ أخرى وتقاتل.

قبل مليوني عامٍ وأكثر كانت هناك ستة أجناس من البشر لم يبقَ منها اليوم سوى الهوموسابيانز، الإنسان العاقل الاجتماعي. أين ذهبت كلّ تلك الأجناس؟ يؤكّد العلم أنها لم تندمج مع بعضها، رغم حدوث بعض المزاوجات بين البشر والنياندرتال والدنيسوفان. لكنّ خمسة أعراقٍ اندثرت كلياً ومن المرجّح أن ذلك حدث على يد أجدادنا. واليوم يتقاتل البشر فيما بينهم أيضاً من دون أي رادع. هكذا النمل أيضاً، يخوض حروباً مع أبناء جنسه ومع أبناء الأجناس الأخرى. تكون هذه الحروب بغالبها مدفوعةً بالمنافسة على الطعام والمأوى والأمان، كما أنها تُبنى على تقدير طرفٍ للخطر الذي يشكّله الطرف الآخر. أتساءل: ما الخطر الذي شكّله جورج فلويد في نظر الضابط فجعله يرديه بدمٍ بارد رغم كلّ توسّلات الأخير؟

في الحرب كلّ شيء مباح في نظر المتحاربين. الضرب والقتال والقنابل والتفجير وتقطيع الجثث وحتى الأسلحة الكيميائية. والمشهد هنا متشابهٌ في عالمي النمل والبشر. نعم حتى التفجير، فثمة نوع من النمل تكون النملة منه قادرةً، إذا ما أخذ منها الغضب مأخذاً، على تفجير إحدى غددها في وجه مغضبها. تتحوّل النملة إلى قنبلةٍ موقوتةٍ فتطلق حولها ما هبّ ودبّ من المواد الكيميائية السامة.

أتساءل مجدّداً: هل يعقل أن يكون هناك من ينظر إلى ما حدث في أميركا على أنه حرب بين جنس البشر وجنسٍ آخر، كالنمل مثلاً؟ هل هذا ما يفسّر برودة دم الشرطي وهو يسحب روح فلويد برجله، ببرودة الدم ذاتها التي يدهس البشر فيها نملة؟ مرعبٌ للغايةّ!

لكن التطوّر لدى النمل أدّى إلى ولادة نوعٍ جديد تعطّلت لديه القدرة على تمييز أبناء جنسه فصارت النملة التابعة لهذا الجنس تحيّي كل نملةٍ تلتقيها في طريقها وتتعامل معها وكأنهما تابعتين للمجموعة نفسها. وهكذا خفّت الحروب لدى هذا النمل المتطوّر وصار جنسه أكثر نجاحاً على المستوى الإيكولوجي بفضل تطوّر قدرته على التواصل. إذن كلما ازداد التواصل كلما ازدادت فرص النجاح وتأمين الحاجات الأساسية.

في المقابل، أدّى التطوّر لدى البشر إلى خلق المزيد من الحدود والحواجز المادية الملموسة بين الأفراد وفي كافة المجالات، لنعود إلى بيوتنا كلّ ليلةٍ ف”نسوح” في العالم الافتراضي. واليوم في زمن الوباء والتباعد الاجتماعي ازددنا عزلةً واختلقنا مسمّياتٍ من مثل “التقارب الاجتماعي” و”التباعد الجسدي” لنبرّر توحّدنا. فالإنترنت وسيلةٌ نُعلم من نحبّ من خلالها بشوقنا، ونضحك على أنفسنا بأننا تقرّبنا منهم، لكننا في الحقيقة نزيد التباعد تباعداً. وفي خضمّ عزلتنا هذه، انهالت علينا أخبار بشرٍ قتلوا بشراً بسبب لونهم، أو جنسهم، أو جنسيّتهم…

من مدونة الكاتبة عزة طويل

  https://azzascreativeblog.wordpress.com

 

 

 

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

إطلالة على كشكول رباعي متكامل

إطلالة على كشكول رباعي متكامل بقلم: زياد جيوسي    في 438 صفحة من القطع الكبير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *