الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / قراءة في قصيدة* قم فارقص أيّها التراب* للشاعرة سليمى السرايري

قراءة في قصيدة* قم فارقص أيّها التراب* للشاعرة سليمى السرايري

قراءة في قصيدة* قم فارقص أيّها التراب*

 للشاعرة سليمى السرايري

الأديب والناقد السوري صادق حمزة منذر


على وقع الفاجعة وهول ووحشية الجريمة
تتصاغر الأشياء والمفاهيم والتعريفات والمسلمات حين تـُنتهك الانسانية بفجاجة وفجور وتسقط كل التوقعات
في فخ الرعب والرعب الأكبر لتجد الحياة نفسها بين فكي التلاشي
هكذا تتصاغر الذات وتَحول ردود أفعالها مجرد دبيب يبحث عن جحر تلتقط فيه أول أنفاس الشهادة .. شهادة
على المكان والزمان في عصر رديء
هناك حيث يصبح الوصف أكثر صعوبة والتعبير أشد قسوة من الموت
تتصاعد المآسي وتتجاوز حدود معادلة الحياة والموت حين تكون كل المبادئ الإنسانية والأخلاقية قد انتهكت ..
ويحجم الوعي عن متابعة تسجيل الوقائع
ويتصاغر .. ويتصاغر ليلبس جسد نملة ..
قد يسمح له هذا الوضع باحتمال الوقوف مرة أخرى على قدمين من نقاء وعلى أقصى حدود التواضع والعفوية
في مواجهة الشر المتعاظم .. يبدأ التراب بالرقص ..

1- الذات الشاهدة :

ماذا فعلت ؟ إن صوت دم أخيك يصرخ إلي من الأرض , فمنذ الآن تحل عليك لعنة الأرض التي فتحت فاها وابتلعت دم أخيك الذي سفكته يدك , عندما تفلحها لن تعطيك خيرها , وتكون شريدا وطريدا في الأرض
تكوين : 4: 10


أمام الحقيقة المجردة الجلية الغامرة بكل ما فيها من هول تنكسر العين الشاهدة
وتستحي وتخاف وتتصاغر .. تزحف منسحبة لتتقي هول المشاهدة القاسية فالحق
أبلج كالشمس يسحق كل زيف أو ميل أو تعاطف أعمى وعندما تقع الجريمة تصرخ الدماء مطالبة بحق ثقيل
مهما تجشم المعتدون طرائق تزييف الوقائع والأدلة فالتراب هو صاحب الكلمة العليا تعضده صلابة الحجر ..

 

قالت نملة ٌ وهي تفتح عينيها للصباح ..
توغل في ثقب قرب حجر
كيف أتسرّبُ على تراب احترقتْ فوقه دماءٌ.. و أشلاءٌ ؟


2- صلاة الجنازة :

وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بَيْدَرِ أَطَادَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ أَقَامَ يُوسُفُ لأَبِيهِ مَنَاحَةً عَظِيمَةً مَرِيرَةً نَاحُوا فِيهَا عَلَيْهِ طَوَالَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ 10 وَعِنْدَمَا شَاهَدَ الْكَنْعَانِيُّونَ السَّاكِنُونَ هُنَاكَ الْمَنَاحَةَ فِي بَيْدَرِ أَطَادَ قَالُوا: «هَذِهِ مَنَاحَةٌ هَائِلَةٌ لِلْمَصْرِيِّينَ». وَسَمُّوا الْمَكَانَ الَّذِي فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ «آبِلَ مِصْرَايِمَ» (وَمَعْنَاهُ: مَنَاحَةُ الْمِصْرِيِّينَ). ”
تكوين 50: 9-10

قال الله تعالى: “وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
التوبة:84

بقي الإنسان يقف مشدوها وجلا أمام الموت يطأطئ خاشعا وبدأ يعتمد طقوسا دقيقة لتأبين الميّت ولتوثيق حزنه
عليه وعلى نفسه التي تشعر بنهاية مشابهة , فالموت يظل نهاية مفجعة يصارع الإنسان منذ فجر الخلق
لتجنبها دون أي نتيجة .. وظلت الكتابة واحدة من أهم طرائق الإنسان لتويثق سيرته وحقيقة وجوده العارية
لتعبر الزمن وتصل إلى الآخرين ممن سيعبرون مسرح الحياة من بوابتيه .. فيكون الإنسان شاهد على نفسه
وعلى عصره بأمانة نسبية يحدها انحيازه لكل ما يملكه من مبادئ وقيم ذاتية واجتماعية .

الشاعرة سليمى السرايري/ تونس

النملة جاثية على أناملها تبكي تارة
وتارة تشعل ضفائرها للقادمين ..جهة العتمة
الحجر أعماه الشرود بما يكفي أن تحتويه ضفّة مقابلة
كانت نملة هناك، تحصي خطواتها
وتتعرّى للنازحين من النمل .. والزمن الرديء


3- سجل الأدلة والإدانة :

( وَقَالَ لِآدَمَ: « ….. ، فَالأَرْضُ مَلْعُونَةٌ بِسَبَبِكَ وَبِالْمَشَقَّةِ تَقْتَاتُ مِنْهَا طَوَالَ عُمْرِكَ.18 شَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ.19 بِعَرَقِ جَبِينِكَ تَكْسَبُ عَيْشَكَ حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ، فَمِنْ تُرَابٍ أُخِذْتَ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». )

تكوين : 3 : 17-19

في أوج الفاجعة يخرج الوعي من حالة الصدمة قافزا إلى الأمام محاولا إيجاد مبرر .. مسبب .. ويبدأ البحث عن
الأدلة الدامغة للوصول إلى متهمين .. ويبدا الاتهام واسعا .. ليضيق بعد ذلك مطوقا بالأدلة والشهادات , وهنا
يبدأ الصراع من جديد بين الذات الشاهدة المستضعفة والمحيط الظالم بكل قسوته وجبروته .. هنا الصراع
على تصنيع الحقائق لتكون دليل إدانة ..
ولا بد ان تستثمر الكارثة وتصل إلى نهاية مرغوبة ربما قد تم التخطيط لها في وقت سابق جداا .. ولابد أن
محاولة فرض الحقيقة المصنعة من قبل المتسلطين سيقابله رفض ومقاطعة من قبل المحكومين , وسيقدم
الوعي صورة جدلية خلابة لطبيعة الصراع الأزلي بين متسلط ومستضعف .. حيث تكبر الأكذوبة ثم تتراكم
الأكاذيب المفصلة على قياس الحدث لتصبح مرضا يهدد ممالك الوهم .. فتترنح الأوطان الضعيفة ..

النملة زجاجيّة الهيكل ..لا شيء يُثقل هرولتها
سوى نملة صغيرة احدودبتْ على ظهرها
تشاهدُ عبثيّة الأرض
وتحيّي الوريقات المتساقطة ..
ثم تستلقي بلا عمر تحت الأشجار..

الأشجارُ صامتة
وغيم دون مقاومة يغازلها
الريح عائدة من العواصف الحجريّة
بينما المطر يبلّل أطراف النمل
كلّما اشتدّت هزيمة النهار ، يتّسع الابتلاء
والنملة مازالت تضيء عزلتها
تعود إلى قومها رافضة الإقامة.. في المشاهد الضيّقة
المملكة عالية عالية، بما يسمح للرطوبة أن تتسلّل..

4- مأساة البشرية ..

(.. يَااللهُ .2 هُوَذا أَعْدَاؤُكَ ثَائِرُونَ، وَمُبْغِضُوكَ يَشْمَخُونَ بِرُؤُوسِهِمْ.3 يَتَآمَرُونَ بِالْمَكْرِ عَلَى شَعْبِكَ، وَيَكِيدُونَ لِلإِيقَاعِ بِمَنْ تَحْمِيهِمْ.4 يَقُولُونَ: «هَلُمَّ نَسْتَأْصِلْهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ، )
مزمور 83: 1-4

( وَعِنْدَمَا تَرَوْنَ أُورُشَلِيمَ مُحَاصَرَةً بِالْجُيُوشِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ خَرَابَهَا قَدِ اقْتَرَبَ.21 عِنْدَئِذٍ، لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي مِنْطَقَةِ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، وَلْيَرْحَلْ مِنَ الْمَدِينَةِ مَنْ هُمْ فِيهَا، وَلاَ يَدْخُلْهَا مَنْ هُمْ فِي الأَرْيَافِ:22 فَإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ أَيَّامُ انْتِقَامٍ يَتِمُّ فِيهَا كُلُّ مَا قَدْ كُتِبَ.23 وَلكِنَّ الْوَيْلُ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، لأَنَّ ضِيقَةً عَظِيمَةً سَوْفَ تَقَعُ عَلَى الأَرْضِ وَغَضَباً شَدِيداً سَيَنْزِلُ بِهَذَا الشَّعْبِ، )
لوقا : 21: 20-23

( لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم.
ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة. )
من مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

عندما تخرس الحقيقة ويجبر الحق على السكوت تكون قد وصلت البشرية إلى قمة مأساتها ويكون الخبر قد وصل
إلى مقبرة الحقيقة دافعا الوعي إلى أقصى حدود الهزيمة والاستنكار فلا شيء له قيمة ولا تأثير على الأحداث
التي يعد لها الأقوياء ويصنّعوا لها حقائقم الخاصة .. فتسقط أمامها كل الحقوق والأحقائق ويتغير وجه الكون
إلى وجهة وحيدة مبهمة تضع خلفها كل إعراس الإنجازات البشرية الكبيرة والصغيرة .. الفردية والجماعية ..
لتتدمر الوسيلة وتضيع الغاية ويحتدم الألم البشري يدفع بالمعذبين في الأرض إلى هاوية العبودية القصوى
ويحولهم وقود شديد الاحتراق على مذابح الفقر والجهل و الاشتهاء الذي أعد للبائيسن .. وهكذا لا يعود
قادرا على الوقوف إلا من يملك ثمن الوقوف وهو الاستقلال والسيادة .. ويعلو الأنين ويسقط ( الوطن ) الغلاف
الحي لكل مظاهر القوة والاستقلال والسيادة ..

لماذا الأصوات مطفأة..؟
لا رفيق للنملة ..سوى سنبلة في حقل بعيد
كان يوما عنوانٌ خصبٌ ..لأكثرَ من عرس موسميّ.

تقول النملة التي لم تصل بعدُ
كيف نفقد خارطة الطريق دفعة واحدة؟؟
هذا الزمن جسدي
وهذا التراب مأساةُ النائمين في العراء
كلّ المنافي لا تكفي المعزولين
كلّ المراثي أسلمت عقيرتها للنواح….
فهل عادت سوق النخاسة يا تُرى..؟
لتمتلىء أكمامُ الفجر بذاك الأنين..؟

وعلى وقع الهزيمة .. تسقط ستائر الحلم وتظهر معالم الجريمة وحجم المأساة بحق الوطن
وبحق مواطنيه المنومين ..

أيّها العشب النائم على كتف الفراغ
انهض من سباتك ..
قبل أن تدوسك قوقعة قادمة
لن يحضر القمر هذا المساء
ولن تُفتح مملكة النمل


5- الأضحية ( المسيح )

( إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. وَإِنْ لَمْ يَحْرُسِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ فَبَاطِلاً يَسْهَرُ الْحَارِسُ.2 بَاطِلاً تَكِدُّونَ مِنَ الْفَجْرِ الْمُبَكِّرِ وَإِلَى وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي سَبِيلِ لُقْمَةِ الْعَيْشِ، فَإِنَّ الرَّبَّ يَسُدُّ حَاجَةَ أَحِبَّائِهِ حَتَّى وَهُمْ نِيَامٌ.3 هُوَذَا الْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، وَالأَوْلاَدُ ثَوَابٌ مِنْهُ. )
مزمور 127: 1-3

( 9 وَلَمَّا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ اللهُ شَيَّدَ إِبْرَاهِيمُ مَذْبَحاً هُنَاكَ، وَنَضَّدَ الْحَطَبَ، ثُمَّ أَوْثَقَ إِسْحقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. )
تكوين 22: 9

( وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ، انْفَرَدَ بِالتَّلاَمِيذِ الاثْنَيْ عَشَرَ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ لَهُمْ:18 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، حَيْثُ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ، وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ،19 وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الأُمَمِ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَصْلِبُونَهُ. وَلكِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». )
متى 20: 17-19


يتسامى الوعي في أوج الموت ليستلهم الحياة مدركا حقيقة واحدة هي أنه في حالة الموت يتساوى الجميع كل
الذين لم يتساووا في الحياة ويعيد طرح السؤال الوجودي الكبير .. لماذا أعيش ..؟؟ وفي أوج الاستغراق في
البحث عن إجابة يخرج السؤال الأكثر صلابة وثباتا .. لماذا أموت ..؟؟ إن كانت للحياة أهدافا وفوائد فللموت
فائدة واحدة من وجهة نظر المستضعفين .. وهي منح الانتصار للأحياء الرازحين تحت سيف الفاقة والموت ..
أنه عالم جديد وعقيدة جديدة يبشر بها تبدأ خطوتها بالموت ثم الانبعاث على وجه كون جديد يعيد الحق إلى نصابه
والأحكام إلى صاحبها لتشرق الحقيقة الواحدة مرة أخرى من مشرق الكون إلى مغربه .. إنها دعوة للخلود من
قلب جحيم الفناء ..

سوف أدخل الآن حمحمة الضياع ..
هناك سويّتُ لجسدي محرقة
هناك قامات صغيرة من النار
تغنّي لوليمة الاحتراق
هناك مسافة للانبعاث من جديد

قم فارقص أيّها التراب
كوّن من حبّاتك معبدا للنسيان
للصرخات البطيئة
للمقتولين خارج القانون…..

قالت نملة…وهي تمدّ بعضها ،
في المسافة الفاصلة بين النار والدخان .

……

بوركت سليمى أيتها الشاعرة الراهبة في محراب الحروف .. نص محلق في أجواء اللحظة التي نعيشها بطقسها
العاصف والمختزل على دبيب حرف شاهد ..
كان نصا شديد الدقة والتكثيف .. وعنيدا جدا في إرجاع الأشياء إلى مفهومها الأولي البسيط لتظهر المفارقة
بأشد ما يمكن وتعلن فداحة المأساة على امتداد الخطيئة .. وهكذا كان ومنذ العنوان .. الذي قدم أصدق تعبير عن
هذه المفارقة الكبرى بسخرية الحكمة واختزل الدعوة إلى الموت من أجل الحياة بمنتهى الذكاء ..
لقد كنا نقول دائما أن قصيدة النثر هي قصيدة الفكر ولهذا أجد أن هذا النص من أروع ما قرأت في بساطته
وشدة تماسكه وبنائه الشديد الحرفية والمقنع جدا في صالح الدعوة التي حملها ..

تحيتي وتقديري لك أيتها الشاعرة المتفوقة ..

********

قم فارقص أيّها التراب.. للشاعرة سليمى السرايري

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

2 تعليقات

  1. شكرا جزيلا على لفتتكم الكر يمة بالنشر
    اتمنى للصحيفة مزيدا من الازدهار والرقيّ

  2. شكرا جزيلا على الغهتمام ونشر أعمالي الأدبية
    راجية لصحيفتكم مزيدا من الغزدهار والرقيّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *