الرئيسية / مجتمع / الكاتب الهادي راضي : الرواية لا تراوغ القمع، إنما تبحث عنه لكي تعريه

الكاتب الهادي راضي : الرواية لا تراوغ القمع، إنما تبحث عنه لكي تعريه

 الكاتب الهادي راضي :

الرواية لا تراوغ القمع، إنما تبحث عنه لكي تعريه

الهادي راضي الكاتب الصحفي الذي يعمل في قطاع التعليم، يشغل مهام رئيس منتدى السرد والنقد، وعضو مؤسس في المركز السوداني للثقافة والتوثيق، وعضو منتدى نيالا الثقافي، ساهم  في تصميم عدد من الورش والمشاريع ذات الصبغة الثقافية والإبداعية.
نُشرت له قصص وحوارات ومقالات في عدد من الصحف والمجلات المحلية والإقليمية والعالمية. له العديد من الأعمال ؛منها مناضد ملونة، و عسس العسف، كان لنا معه هذا الحوار الذي لا يخلو من الصراحة:

حاورته رانيا بخاري/ السودان

الكاتبة و الصحفية رانيا بخاري / السودان

  هنالك بحث دائم عن الخلاص.. هل استطاعت الرواية خلق رموز جديدة، تسهم في التعبير عن مسيرة البحث عن الخلاص.. ذاتياً كان، أم جمعياً؟

  سيظل هذا البحث متصلاً، طالما هنالك تجارب جديدة، تعمل على ملء الفراغ السردي في الكون. والرواية قادرة دوماً على خلق رموز – ليست جديدة- إنما هي حالات لتجارب متصلة تطرق أسئلة وجودية بزوايا شوف متباينة، وتسهم في فضح واقع، أو تلفت النظر إلى جمالياته. ومن منظور آخر، يمكن القول بأن الآداب والفنون، ما هي إلا أيقونات وجودية، لها خصائص وسمات، تسهم من خلالها في سيرورة عجلة الحياة. أضف إلى ذلك، أن فن السرد عموماً، والرواية على وجه الخصوص، ظلت على مر تاريخها – ولم تزل – تطرق على أسئلة أنطولوجية تهم الإنسان في المقام الأول، سواء كان ذلك بحثاً عن جماليات (شكل)، أو طرقاً على أسئلة (مضمون)، أو الاثنين معاً، وقد تنشد فتح كُوى ومسارات تفضي إلى عوالم وفق رؤية الكاتب. إذن هي تبحث عن كيفية خلاص الإنسان من قهره وأزماته.

  هل استطاعت الرواية أن تتعلم مراوغة القمع الخاص بعصرها، مستندة على خبرة الماضي الإبداعي.. مختالة على التمثلات الكنائية والتوريات السردية، التي أفادت منها الرواية الإحيائية.. من خلال خبرة تراثها الأدبي ، إذا جاز لنا أن نقول: هو تراث أنجز من بلاغة المقموعين؟

   الرواية لا تراوغ القمع، إنما تبحث عنه لكي تعريه. والقمع كسلوك، يُعد من أكثر الثيمات تحفيزاً لكتابة الرواية، فالمقموع يفضح القامع عبر تجليات السرد ويعريه. ويبين الأبعاد النفسية لكليهما، وهنا تشتغل الرواية كمختبر للنفس الإنسانية. وقد تختلف طرائق المعالجة الفنية للموضوع وفقاً لرؤية الكاتب، ومن ضمنها استخدام المحسنات البديعة.. شريطة أن يأتي ذلك في سياق إبداعي، ليس كما فعل الإحيائيون الذين جعلوا للأدب وظائف تهذيبية في الظاهر، ولكنها تستبطن بعداً آخر، عبر لغة تعتني بالتلكف اللفظي والمحسنات البديعية مما أفرغ المنجز الإبداعي من إبداعيته، فالإبداع ابتكار. وعلى مر الحقب تجاوز فن الرواية محطة الرواية الإحيائية، ولم تعد سوى مرحلة تؤرخ لتدهور الأدب وانحطاطه، كما تقول بعض الدراسات.

المكان من أهم خصائص القصة السودانية، وظهر ذلك جلياً منذ ثلاثينات القرن الماضي في قصة (الموت والقمر) لمعاوية نور، فهل انفصال الذات الكاتبة عن المكان – حتى وهي تعيش فيه- هل سيخلصها من سيطرة المكان؟

الكاتب السوداني الهادي علي راضي

  المكان من عناصر القصة بشكل عام، وليس من الخصائص، فالخصائص هي التي تحدد شكل الجنس الأدبي – كالإيجاز والتكثيف في القصة القصيرة مثلاً- أما العناصر فهي المكونات الرئيسة للعمل، كالرؤية، الشخصية، الموضوع والتكنيك..إلخ. عموماً.. يعتبر المكان أحد المصادر الإبداعية للكاتب، وسيظل كذلك حتى وإن مارست الذات اغتراباً في حيزها المعلوم، أو هاجرت إلى بقاع أُخر. ستظل فكرة المكان كمصدر إبداعي مسيطرة على الذات الكاتبة بكل تفاصيلها.. فالأمكنة حيوات. والمكان كعنصر فني، ليس هو المكان الفيزيائي الذي يعيش فيه المبدع، إنما هو تجلي له – أي للفيزيائي-

المدرسة الواقعية.. هل استطاعت أن تجعل من النص السردي مرآة تعكس الواقع وتمثله كما هو في ذهنية الكاتب، وليس الواقع كما هو، علماً بأن النص ما هو إلا عبارة عن وسيلة تعبر عن التزام كاتبه الاجتماعي والايدولوجي؟

  النص السردي في المدرسة الواقعية هو شهادة الكاتب على عصره، من خلال طرح سؤاله الإبداعي، الذي ينبع من واقع مشاركته  في حركة التاريخ لحظة إنتاج نصه السردي.. وبطريقة قصدية أو غير قصدية هو التزاماً اجتماعياً طالما أن سؤاله الإبداعي مرتبط بمجتمعه، ولكن ليس بالضرورة أن يكون التزاماً ايدولوجياً، وإلا انزلق النص إلى فضاء الترويج، مما يدخل الكاتب في حيز خونة الفن الذين يستغلون الآداب والفنون لتمرير أجندة تخصهم.

المفهوم القديم للبطل.. اليوم من هو؟ أهو الإنسان، الآلة، أم العقول الإلكترونية، أم الفكرة، أم محنة الكاتب في زمن الموت؟ أم أن الرواية لم تعد تهتم بالأبطال وأصبحت رواية الإنسان اللا بطل؟

   لم يعد البطل في الرواية الجديدة، هو تلك الشخصية الموصوفة بأبعادها الفيزيائية، والبيولوجية، والنفسية، كما كان عليه الحال في الرواية التقليدية والحديثة إلى حد ما. وكل ذكرته من الممكن أن يكون أحدها بطلاً في رواية ما، وحتى اللغة ذاتها قد تلعب دور البطولة في نص ما. فالرواية بأشكالها المختلفة، لم تعد تحفل كثيراً بمفهوم البطل الذي تقوم عليه الأحداث وتتطور وفق علاقات سببية مترابطة، بل العكس تماماً، قد تجدين كاتباً يشتغل على هدم فكرة البطولة أو الأبطال، فيحول الشخصيات إلى مجرد أسماء أو أصوات ترمز إلى حالات نفسية.

يقال إن رواية السيرة الذاتية تزوير للذاكرة وفقاً لمقياس أوهامنا.

  أولاً: تزوير أي ذاكرة؟ ذاكرة كاتب السيرة، أم تزوير للذاكرة المشتركة بين كاتب السيرة والمحيط الذي حوله، فيما يختص بعمليتي التأثير والتأثر، بالأحداث والوقائع التي قد يتناولها الكاتب أثناء سرد سيرته الذاتية؟

غلاف (عسف العسس) للهادي علي راضي

  ثانياً: رواية السيرة الذاتية لا تحتمل الأوهام والخيالات لملء الفراغات الزمكانية كما يحدث أحياناً في كتابة الرواية التاريخية، ولو افترضنا جدلاً أن ثمة كاتب سيرة ذاتية، روى سيرته مغلفة بالأوهام، فإن ذلك لا يُعدُ تزوراً فحسب، إنما هي خيانة لتاريخه وتاريخ أمته، فرواية السيرة الذاتية.. على الرغم من أنها تعتمد في بنائها الفني على السمات الجمالية لفن الرواية، إلا أنها من جانب آخر تؤرخ لوقائع حقيقية حدثت في الفترة الزمنية؛ التي عاشها الكاتب منذ ميلاده حتى لحظة كتابة سيرته، وبالتالي فهو ليس سارداً فحسب، إنما شاهداً يدلي بإفادته، ويوضح رؤيته للتاريخ بكل أمانة وصدق.

الرواية الإليجورية هي إحدى إنجازات القص الأوروبي في إنطاق المسكوت عنه في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية، فهل استطاع الروائي عبر لعبة السرد أن يوظف القناع الإليجوري في بث رسالته.

  ابتكار الأساليب الفنية، بغرض الالتفاف حول القوانين القامعة لحريات التعبير، سواء كان ذلك من سلطة سياسية، أو مجتمعية في إطار وجود الفرد داخل مجتمع ما؛ هذا الأمر ضارب في القدم، والرواية الإليجورية هي إحدى تلك التجليات، وكذا الرواية الرمزية التي تشتغل على حيونة أو تَشيُّء الإنسان.ويكون الاعتماد على تلك التقنيات لتوصيل الخطاب السردي للمتلقي بمختلف توجهاته، وقد يأتي الخطاب السردي في سياق انتقادي لسلطة ما، أو اشتغالاً على تابوهات اجتماعية. وقد استفاد عديد الكتاب من تلك التقنيات، واستخدموها عبر اللغة كأداة لبث خطابهم السردي للمتلقي. ومن البديهي أنه كلما ضاق هامش الحريات في بلد ما، يبحث الكتاب والفنانون عن سبل مقاومة، ويلجئون إلى مثل تلك الأساليب، فيتوشح السرد الرداء الاليجوري، ويدخل الشعر (وكر المباشرة) كما قال عاطف خيري. “كل ما الليل خت في كتف العسس نجمة.. جرت العصافير للمطار ودخل الشعر وكر المباشرة”

   وتمثل رواية (أولاد حارتنا) للكاتب الكبير نجيب محفوظ، أنصع الحالات الاليجورية في السرد المكتوب باللغة العربية. تلك الرواية التي فتحت لكاتبها أبواب الجحيم، من قبل الذين قرءوها كرواية رمزية، وليست حالة إليجورية، ولكن ما يهم أن الرواية استطاعت أن تخلق عبر قناعها الاليجوري حالة إبداعية فريدة، وحققت خلودها إلى الأبد، كعمل إبداعي خلاق.

المناعة الثقافية للمجتمع السوداني ضعيفة، وظهر ذلك في أزمة الهوية، بسبب عدم التمييز بين استقلال الجنسية ومقومات الهوية.

   إذن هي مشكلة تاريخية. ولكن ما الذي يجعل مناعتنا الثقافية قوية – حسب التعبير – إذا أعدنا التاريخ. فالأزمات هي هي، إنما تفاقمت وازدادت بشاعة. وسؤال الهوية تم طرحه في القرن الماضي، ولم تتم الإجابة عليه، أو لم يهتم السادة الأفاضل من الساسة والمثقفين والوطنيين، الذين انشغلوا بتكريس ايدولوجياتهم وانتماءاتهم الطائفية، وتعاملوا مع مسألة الهوية كدرجة من درجات سلم الصعود إلى السلطة، ولم يتخذوه كسؤال حتمي ومصيري، لو تم بحثه كان سيجنبنا ما نعيشه الآن من نعرات قبلية مزعجة، ولما طغى صوت القبيلة والجهة على الانتماء للأرض، ولما أصررنا – لدرجة الهبل – في سبيل إثبات انتمائنا إلى قومية، لا تربطنا بها سوى اللغة. الآن نحن أمام حالة مجتمعية مضطربة. مجتمع فقد بوصلته، وصار تائهاً في اليم تتقاذفه الأنواء، ولو سرنا على هذا المنوال.. حتماً سنقذف إلى مذبلة التاريخ. كل ذلك لأن ثمة أسئلة مصيرية لم تتم الإجابة عليها في حينها.. نحن نملك تفردنا كبلد ذاخر بقوميات ذات لغات ولهجات متعددة. وكان من الممكن أن يكون حالنا أفضل لو استطعنا في القرن الماضي – لحظة تشكل الدولة السودانية المستقلة- أن نحسم مسألة الهوية. كانت لحظات لا تقبل غير أن نكون أو لا نكون.. وللأسف لم نكن. والآن.. مع المد العولمي وانزياح الحدود الجغرافية والثقافية بين المجتمعات، ومع تنامي هذا المد المهول والمرعب للآلة الإعلامية بكل تقنياتها.. صار الكون بأكمله مهدداً بتذويب الهويات.

  وثمة سؤال يجب طرحه صراحة الآن.. هل سؤال الهوية في الوقت الراهن، بكل تعقيداته واضطراباته المربكة؛ يتقدم في الأهمية على أسئلتنا البدائية – التي تجاوزها غيرنا منذ أمد – أسئلة الجوع والمرض والفقر؟ أم هو سؤال أكثر أهمية من سؤال الحرية؟ ومفهوم الحرية لا يعني الفكاك من ربقة المستعمر الأجنبي فقط. هو أشمل من ذلك بكثير.

هل استطاعت الأسطورة  – كأداة جمالية – من جعل لحظة التاريخ قابلة للولادة والحياة في لحظة تاريخية أخرى أو في الراهن؟

  إن الأسطورة، أو الموروث الشعبي، بشكل عام، يعتبر منجماً خصباً للتجريب في المجال السردي، وذلك للثراء المهول بالثيمات، التي تمنح المبدع فضاءات لا متناهية لابتكار التقنيات السردية. وتوظيف الأسطورة، أو الموروث الشعبي لمجتمع ما، عبر الأجناس الأدبية المختلفة؛ هو في الأساس قراءة، أو تأويل للحظات محددة من التاريخ بزاوية فنية. والتأويل في هذه الحالة يعتبر نوع من الحوار بين ما مضى وبين ما هو راهن. بمعنى آخر، هو استدعاء التاريخ عبر الأسطورة ومحاورته، بغرض طرح أسئلة وجودية حاضرة. وهذا الأمر لا يخرج من عملية تواصل الماضي بالحاضر. وإن استخدام الأسطورة فنياً، ينطوي على هدف أسمى من كونها أداة جمالية.. وذلك باعتبارها دُعامة أساسية، تساهم في الحفاظ على الخصوصية الثقافية، وحمايتها من الذوبان في غيرها. فعندما ننقل خصوصيتنا الثقافية، من حالتها الأسطورية إلى حالة فنية، ومن فضاء شفاهي إلى فضاء كتابي.. نكون قد ساهمنا بشكل فاعل، في عملية  توثيق تراث المجتمع، الذي هو في الأساس ضمن منظومة التراث الكوني للبشر.

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي هالة نهرا قُبيل أحداث غزّة التي شغلت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *