الرئيسية / دراسات علمية / سيميائية الجبل في رواية السدّ لمحمود المسعدي

سيميائية الجبل في رواية السدّ لمحمود المسعدي

سيميائية الجبل في رواية السدّ لمحمود المسعدي

سيميائية الجبل في رواية السدّ لمحمود المسعدي*

د/إسمهان ميزاب. جامعة الشهيد حمّه لخضر-الجزائر-

 

دإسمهان ميزاب.

ملخّص:

     يعدّ السدّ للمسعدي[1] نصّا عصيّا على التّصنيف والقراءة والاستقراء والتحليل، باعتباره يغرف من فلسفات وأفكار عدّة، فهو  يتناصّ مع المبنى القرآني و المعنى الملحمي الأسطوري الوجودي والفكر النّتشوي؛ حيث تمكّن الكاتب من نسج جبل من المشاهد الصّادمة في قالب سرديّ مبتكر، ينأى عن الصّورة النمطيّة للسّرد، واختار شخوصا مرئية، وأخرى نورانيّة، وتخيّر من الأماكن سفح جبل أخشب غليظ، دون تحديد لجغرافيا المكان، أو ضبط للزّمان قصد أنسنة الموضوع باعتباره رجلا صاحب رسالة في الحياة. فما مضمون هاته الرّواية، وما هي دلالات الجبل فيها؟

مقدّمة:

     إنّ رواية السدّ حبلى بالدّلالات الرمزيّة انطلاقا من العنوان- السدّ- إلى اختيار أسماء الشّخوص، وكذا إضافة شخوص نورانية وحيوانية وحجرية، وانتهاء باختيار فضاءات تتحرك فيها تلك الشّخوص، حيث اختار لها الرّوائي أسماء تشكل علامات دالة في مسرح أحداث الرّواية، وقد اتّخذت الجبل موطنا لها؛ حيث يغدو الجبل رحم الإحالات في الرّواية لحضوره في عدد من مشاهدها، انطلاقا من المشهد الأول.

السدّ بين جنس الرّواية والمسرحية:

     السدّ عمل عمل أدبي تمازجت فيه الألوان والأشكال والأساليب الأدبيّة، فمن مسرح الى رواية الى شعر، فهي كوكتيل أدبي رائع، بل عملية معمارية فيها: الكلمات تبنى، والشّخوص تشيد والحركة تلمّح رمزا يهطل تشويقا وإيماء.[2]

فهي مزاوجة بين جنسين أدبيين هما الرّواية والمسرحية، وتتكون من ثمانية مناظر، تفتتح بإشارات ركحية سردية، وتغلق بها.

وقد حيّرت الكاتب طه حسين وحملته على الاعتراف بأنّه لم يفقَه شيئاً منها حتّى قرأها مرّتين[3]، جرّاء بعدها السيميائي المكثّف بدءا من العنوان.

   لقد اختار المسعدي” السدّ” عنوانا لروايته، وتجربة السدّ مغامرة الأقاصي، ندخلها من باب العنوان، فالسدّ اسم مفرد، ومسمّاه في الكتاب شيئان: هذا الذي في وادي الخرافة، يُشاد بالصلب الصوان، وذاك الذي على أرض التّاريخ ينحت من صمّ الكلام. سدّان هو: صرح يرفع حجارة فوق حجارة، ونص يرصف عبارة بعد عبارة، وفاعلان بطل إنسان، وكاتب فنّان، غيلان والمسعدي، وسيان هما في المغامرة، كلاهما رجل يدحض عنه العدم بالفعل الخلاّق، لعله يثبت في الوجود ذاته[4].

والأحداث هنا دائرة حول هذا السدّ الذي أصرّ البطل على تشييده رغم كل العوائق والمثبطات، فهو البطل الذي لا يستكين ولا ييأس.

وهنا يتبدى لنا جليا توظيف المسعدي لأسطورة سيزيف اليونانيّة بأبعاد حضاريّة متجذّرة في التراث العربيّ الأصيل، وقد يغدو هذا السدّ حاجزا نفسيا، أراد البطل بناءه خشية عري النّفس، وانبلاج صبح حقيقة قصور الإنسان وعجزه عن الفعل المطلق الخلاّق، وهذا ما نستشفه من قول الرّوائي:« وما احتاج إلى سدّ إلاّ من خشي التجرد، وجبُن عن الصدق والعراء، وما استحي من كشف النفس إلاّ من كانت نفسه في قبح العورة.[5]»

كما اختار أسماء الشّخوص بعناية بالغة، وأضاف شخوصا نورانية وحيوانية وحجرية، وهي: ميمونة وغيلان، ميارى، بغل ذكي، ذئب، أطياف وهواتف، وواد وجبل.

فميمونة من(يمن) بمعنى اليمن والبركة[6]، اختاره المسعدي للبطلة التي تشكل صورة امرأة مستسلمة للنواميس، مصغية لصوت الأنثى فيها، ولصوت الأطياف والهواتف.

أما غَيلان فمن الغيل أي الماء يجري على وجه الأرض، وهو أيضا اللبن الذي ترضعه المرأة ولدها، والغيل الشجر الكبير الملتف الذي ليس بشوك، وغلام غيل بمعنى عظيم.[7]

ومن هنا تأتي عظمة هذا البطل الذي أخذ من اسمه دلالات الحياة والنماء والخير الوفير والعظمة، فكان مختلفا عن أنثاه – ميمونة- التي تشكل صوته الداخلي الذي كان يجاهد لكي يخرسه، فهو البطل التراجيدي الذي يصارع ويقاوم، ويتعذب ويتحدّى، بل والذي يذهب نحو حتفه/ الموت بطواعية ورضا، من أجل مقاومة القدر والموت نفسه، فقد كان يصارع الآلهة والقدر، إنّه صراع من أجل تحقيق ما يسميه مارسيا إلياد« ما فوق الإنسان» أو ما يعبّر عنه نيتشه بالإنسان المتفوق، الإنسان الذي لا يعوقه عائق، ولا يحدّ إرادته حد، إنسان القمم الشامخة والمرتفعات العالية[8].

فقد جاهد أكبر خصم له صاهبّاء « وهي الصّهباء الصّاهباء ذات اللهب الحارق جفّت الأرض له جفّا، وفي حروفها من التفخيم والتشديد والمدّ ما يشي بأبّهة السلطان»[9]، وهما « ضدان لا يتفقان، فقد فرّق بينهما في الخرافة ما يفرّق بين ربّة عتيّ وإنسان أبيّ، فهي الإنجيل وهو الكفران، وهي الأمر وهو العصيان.[10]»

وميارى، هي كما وصفها المسعدي خيال وطيف وحب وجمال، جاءت غيلان في لحظات خيبته وحزنه، فزيّنت له سدّه – الخراب – وأغرته بمعاودة المحاولة من جديد، فانقطعت صلته بميمونة والأرض والجبل.

وقد تخيّر المسعدي من الأماكن سفح جبل أخشب غليظ، حزيز مسرحا لأحداث روايته قائلا:« على منحدر جبل أخشب غليظ، نباته كالإبر، وأرضه ظمأى، وغباره كثير، وسماؤه صفراء[11]

فللوصف” أخشب” سيمياؤه المرتبطة بعالم الأسطورة.

1- الجبل المؤسطر: يتّخذ الجبل هنا سمة الأسطوري من خلال كلمة الأخشب، والأخشب من الجبال الخشن الغليظ، ويقال هو الذي لا يرتقى فيه[12]، ويدعّم المسعدي هذا الوصف بالوصفين غليظ وحزيز من باب التوكيد اللفظي؛ فكلمة حزيز تحمل الدلالة ذاتها، فالحزبز من الأَرض موضع كثرت حجارته وغلظت كأَنّها السَّكاكِين[13].

والأَخْشَبانِ جَبَلا مَكَّةَ وفي الحديث في ذِكْر مَكَّةَ لا تَزُولُ مَكَّةُ حتّى يَزُولَ أَخْشَباها، أَخْشَبا مَكَّةَ جَبَلاها وفي الحديث أَن جِبْرِيلَ عليه السلام قال يا محمّد إِنْ شِئْتَ جَمَعْتُ عَليهم الأَخْشَبَينِ فقال دَعْني أُنْذِرْ قَوْمي صلى اللّه عليه وسلم وجَزاه خَيراً عن رِفْقِه بأُمَّتِه ونُصْحِه لهم وإِشْفاقِه عليهم غيره، الأَخْشَبانِ الجَبَلانِ المُطِيفانِ بمكَّةَ وهما أَبو قُبَيْس والأَحْمرُ وهو جبَل مُشْرِفٌ وَجْهُه على قُعَيْقِعانَ[14].

فجبل أبي قبيس  بضم القاف وفتح الباء وسكون الياء بلفظ التصغير كأنّه تصغير قبس النّار، هو اسم الجبل المشرف على مكة ووجهه إلى قُعيقعان، ومكة بينهما أبو قُبَيْس من  شرقيها ، قُعيقعان من غربيها، قيل سمي باسم رجل من مذحج كان يكنى أبا قيبس، لأنّه أول من بنى فيه قبة[15]، وقد ذكر ياقوت الحموي رواية عن عبد الملك بن هشام أنه سمي برجل من جرهم يسمى أبو قُبَيْس من شامخ.[16]

ويرجح أبو الوليد الأزرقي أن الرجل من إياد وهو أول من بنى في هذا الجبل فسمي الجبل باسمه ( أبو قُبَيْس ). كما يعرف أيضاً باسم “أبي قابوبس “و” شيخ الجبال”.

وهناك رواية مفادها أنّ آدم عليه السلام هو أول من كنّى هذا الجبل باسم أبي قُبَيْس ، وذلك حين اقتبس منه النار[17].

وهنا نجد ما يشبه أحداث أسطورة بروميثيوس من بعض الجوانب، وبروميثيوس هو أحد الأرباب المعروفة بالتيتان في مجمع أرباب اليونانيين القدماء، ويعني «المتبصر» وتذكر الرّواية أن زيوس انتزع النار من البشر وجعلهم يعيشون في البرد والظلام نكاية بهم وبحاميهم بروميثيوس، فكان رد الأخير سرقة النار من جبل الأولمب وتقديمها للبشر، فغضب زيوس وعاقبه بنفيه إلى جبال القفقاس، وكلّف ابنه هرمس  اقتياده إلى تلك الجبال وتقييده بأصفاد حديدية إلى صخرة فيها، وأوكل به نسرا يلتهم كبده في النهار ليعود فينمو في الليل. ودام عذاب بروميثيوس اليومي هذا ثلاثين ألف عام، حتّى قام البطل هرقل بقتل النسر وتحرير بروميثيوس من قيوده، وإعادة شعلة النار إلى بني البشر[18].

   ومنه، نلحظ ارتباط جبل المسعدي بالألم والمعاناة كارتباط جبل بروميثيوس- القفقاس- بالعذاب، وثمت قواسم مشتركة بين البطلين: بطل الرّواية-غيلان- وبطل الأسطورة –بروميثيوس- تتجلى في كون كليهما يعدّ رمزا للخير والحق والمثالية، فهما بطلا الثورة الإنسانية على الجور والطغيان والتسلط، ومثال لحماية الإنسان والتضحية من أجله.

وبالأسطورة نعانق الزّمن الأول، فهي بمثابة حفر في جيانولوجيا تاريخ الإنسان، وعمق ماضيه السّحيق، فعبر الأسطورة نعانق هذا التّاريخ الأصليّ، ونحتضن الزّمن الأول، الزّمن المقدّس، أو الزّمن الأبديّ.

2- الجبل رمزا للعود الأبدي:

 يُعرف أيضا باسم التكرار الأبديّ، وهو لا نهائيّ، ويتجلى التكرار هنا من خلال صلة هذا الجبل الأخشب- أبي قبيس- بالحجر الأسود، حيث اقترن باسم النبي إبراهيم عليه السّلام، فقد نادى هذا الجبل إبراهيم النبي أن لك عندي وديعة، وكانت الوديعة الحجر الأسود الذي هبط مع آدم عليه السلام إلى الأرض[19].

والآيات القرآنية في هذا السّياق خير دليل، منها قوله تعالى:﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم ﴾[20]

وقوله: :﴿ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾[21]

وقد تكرّر ذكر الحجر الأسود في عمل المسعدي، متجليا في قول ميمونة مخاطبة غيلان:« هل جعلتَ فيه حجرا أسود»، بالإضافة إلى ظهور غَيلان وميمونة في صورة آدم وحواء « نحن هنا كآدم وحواء، وقد تخلصنا من وشاة الجنة وفضولي الملائكة، وعيون الآلهة.[22]» ، كما ركّز المسعدي على صفة العري كسمة مميّزة لبطلته- ميمونة- حيث جعل منها حواء جبله من خلال قوله: « خرجت عارية إلى الحيوان، والوحوش والأرض والنار والنور، وطهارة الكون، وطهارة الحياة، عراء الكون، عراء الحياة، طهارة الروح، عراء الروح، الصدق[23]

ونجد لهذا المبدأ شذرات في ملحمة جلجامش البابلية؛ حيث نلفي جلجامش ساعيا إلى تكرار المراحل، والعود الأبدي من خلال سعيه إلى عودة الشباب باستخدام النبتة التي أكلتها الحيّة، فخسر بذلك خلوده، ويشكل حضور الحيّة في عمل المسعدي عودا أبديا؛ فهي حاضرة في هاته الملحمة و في قصة نزول آدم مع حواء على جبل نوذ[24]، كما نجد لها حضورا بمسمّى آخر وهو” الثعبان” في كتاب زرادشت للفيلسوف الألماني نيتشه (ت 1900) فالثعبان كان يصاحب زرادشت أينما حل، وهو يرمز إلى الأبدية في دورانها والتفافها وعودها إلى حيث بدأت «سأعود مع هذه الشمس، وهذه الأرض، وهذا النسر، وهذا الثعبان؛ لا إلى حياة جديدة، أو حياة أفضل، أو حياة تقرب من هذه، سأعود أبدا إلى نفس هذه الحياة، في كل صغيرة وكبيرة منها، لكي أدعو مرة أخرى إلى  العود الأبدي لكل الأشياء.[25]»

   فزرادشت بعد عشر سنوات من العزلة والتأمل فوق جبل، يدعو للعود الأبدي، وتكرار المراحل، بهدف تجاوز رهبة الموت.

والمبدأ ذاته نلمسه عند الكاتب والفيلسوف ألبير كامو في مقاله عن أسطورة سوزيف ؛ إذ تأتي الطّبيعة المتكررة للوجود لتمثل عبثية الحياة، وهو الأمر الذي يسعى البطل إلى مقاومته من خلال إظهار ما أسماه بول تيليش « شجاعة الكينونة». وعلى الرغم من اعتبار تدحرج الحجر من أعلى الجبل بشكل متكرر دون وجود نهاية، أمرًا لا معنى له في ذاته، فإنّ التحدي الذي يواجهه سيزيف وبطل المسعدي هو أن لا يصلا لليأس. ومن ثمَ يستخلص كامو عبارته الشهيرة

« يجب أن يتخيل المرء سيزيف سعيدًا»

3-الجبل رمزا للصعود: الجبل رمز للصّعود غير المفارق، فهو أعلى نقطة في الأرض، ولكنّه لا يبارحها، الاقتراب من السّماء، أي السمو بما هو أرضي ليعلو عن المسطح، ولكنّه لا يفارق المحايث، فهو رفض لأي متعال مفارق؛ وقد أبدع المسعدي حين استخدم الفعل” يصّعّدان” في قوله:« امرأة ورجل يصّعّدان في عقبة[26]. فيصّعّدان يفيد التكثير في الفعل، أي كثرة الصّعود، يقول سيبويه:

 « تقول: كَسَرتها وقَطَعْتها، فإذا أردت كثرة العمل، قلت: كَسَّرته وقَطَّعته ومَزَّقته.[27]»

ويقول الرضي: « و فعَّل للتكثير غالبا نحو غلَّقت، و قطَّعت، و جَوَّلَت، و طَوَّفت، وموّت المال[28]

وقد يكون الصّعود معنويا، يحمل دلالات السمو بالإنسان والارتقاء به إلى عنان السّماء لمعانقة أحلامه وطموحاته دون خوف أو كدر أو ملل مهما كانت العراقيل و الصعوبات، في محاولة من الكاتب لخلق الإنسان القوي، أو ما عبّر عنه نيتشه بولادة  “الإنسان السامي السوبرمان”[29]

4- الجبل رمزا دالّا على دونية الإنسان:

يظهر لنا الجبل ساخرا من الإنسان، متحديا له، لحد إشعاره بدونيته، وهذا ما يتبدى لنا من قول المسعدي:« إنّه جبل وليس بجبل. منطق الجبال يصغر عندها الإنسان[30].»، فالجبال ناطقة بمنطقها الصامت، الذي يصغر عنده الإنسان، ويصور لنا المسعدي مشهدا آخر للجبل وهو منتش ضحكا من عجز الإنسان وقصوره عن الفعل الخلاّق« إنّي لأسمع الجبل يضحك لما غشّوك به من البناء الزائف[31]

 و يظهر لنا في مشهد آخر مزهوا بقوته متعاليا « يظهر الجبل في ضوء البرق متضاحكا قائم الصدر متهيئا للتحرك.[32]» ، وهو هنا ينذر البطل بفناء سده الذي عجز عن إتمامه.

5-الجبل رمزا دالا على المعاناة والموت:

 يرسم المسعدي جبلا، ثم يلونه بالسواد القاتم ليزيد من معاناة البطل، فلا يبصر غير الظلام، ولا يسمع غير لحن السواد والموت « انظر الجبل…ينظر غيلان وميارى، فيقع في نفسيهما كالصاعقة، انظر الجلاميد من الظلمات تهتز وتتقدم، إنّي لأسمع لحن السواد[33].»، وقد استعار له ربّة لا ترحم، همّها تلقين الإنسان درس الخضوع والخنوع والاستسلام للنواميس والقيود والحدود، وتخيّر لها من الأسماء صاهَبّاء، و خياره لم يكن اعتباطيا؛ فهو يكتنز معاني الشدة والغلظة « سُبّحت صاهَبّاء، ربّة اليبس ربّة القحط تسكن الجبال.[34]» ، إنه جبل المعاناة والظمأ والجوع « هؤلاء القوم يعيشون في هذا الجبل وهذا الوادي منذ آلاف السّنين… إنّهم لم يطعموا غير الظمأ المطلق، ولا وقع لأفواههم فاكهة أو ثمرة أو لحم أو خبز…»[35] وهو جبل  النهايات، جبل الموت ولا شيء غيره، « إذا الجبل أمامي يتحرك وتمتد يداه، فيدفع الجماجم دفعا دويّا.»[36]  ويسترسل الرّوائي في التوصيف أكثر، وكأنه يصوّر مشهدا من مشاهد يوم القيامة مستعيرا المبنى القرآني المتصل بصورة الجبل وما يؤول إليه منذرا بالنهاية «وذهب الجبل فانتفخ وانتشر وترامى، فإذا هو فجأة يقع على السّهل والوادي، فيدكّهما دكّا ويرحيهما رحيا.»

خاتمة:

    يعد نص” السدّ” للمسعدي من الأعمال المغرية بالقراءة والتحليل والنقد لتضمنه مادة دسمة تستدعي الاهتمام، كونه يغرف من تيارات و أفكار عدة، حيث نجد فيه شذرات من الفكر الملحمي الأسطوري، والفكر النتشوي؛ فهو حافل بالدلالات الرمزيّة التي تحتاج عدّة وزادا للتحليل والتفسير، وهذا بدءا من سيمياء العنوان، إلى الشّخوص وانتهاء بالفضاء المكانيّ، المتمثل في جبل من الجبال، تعمّد الكاتب عدم تحديده ليعطي لعمله الطابع الإنساني، واكتفى بوضع علامات دالة عليه، فدراسته سيميائيا تشي بالبعد التّاريخي المتقادم له وهذا من خلال التوصيف ” أخشب” الذي يحيلنا على أحد أخشبي مكة ” أبي قبيس”، والحديث عن هذا الجيل المتقادم وما يروى عنه يمنح جبل المسعدي الطابع الملحمي الأسطوري، وبالاتّكاء على بعض إكسسوارات هذا الجبل نعود إلى بداية الخلق والتكوين، وهذا ما يصطلح عليه بالعود الأبدي، وهو المصطلح الذي احتفى به كثيرا الفيلسوف الألماني نيتشه بهدف تجاوز رهبة الموت التي أرهقت جل المفكرين، كما غدا جبل المسعدي رمزا للصعود في محاولة منه لخلق الإنسان القوي السامي الذي لا يركن للنواميس والقيود.  ومما لا شك فيه أنّ هذا الجبل لا يبرح معاني الألم و المعاناة والموت، فهي السّمات الفارقة فيه، وفي مشاهد أخرى يجعل المسعدي الجبل دالا على دونية الإنسان ليبيّن لنا عجزه عن تحقيق حلمه – بناء سدّه – ليبقى هذا السدّ في الأخير بحاجة إلى تشييد من جديد.

الإحالات والمراجع:

* . من أعمال الندوة الثامنة لملتقى السرديات،2021، حقوق النشر للرّابطة القلميّة بمدنين. منشورات دار الوطن العربي

[1]– ولد في مدينة تازركة بولاية نابل بتونس في28 جانفي 1911، وبدأ تعليمه في كتّاب القرية. ثم أتمّ الدراسة الثانوية في المعهد الصادقي عام 1933. وفي العام نفسه، التحق بكلية الآداب بجامعة السوربون ليدرس اللّغة العربية وآدابها. وتخرج منها عام 1936.. وإلى جانب التدريس الجامعي، انخرط المسعدي في السياسة.. بعد الاستقلال عام 1956، تولى وزارة التربية القومية.. وفي 1976، تولى وزارة الشؤون الثقافية قبل أن ينهي حياته السياسية كرئيس مجلس النواب وبالإضافة إلى تلك المسؤوليات، كان للكاتب نشاط وافر في منظمتي اليونسكو والأليكسو ومجمع اللّغة العربية في الأردن. وكذلك أشرف على مجلة ” المباحث ” عام 1944، ثم على مجلة “الحياة الثقافية” عام 1975 .. كتب المسعدي أعماله الهامة بين عامي 1939 و1947. أما مؤلفاته فهي عديدة نذكر أهمها:

– حدّث أبو هريرة قال (1939، وطبع العمل كاملا عام 1973)، الترجمة الألمانية صدرت في نوفمبر2009 والسدّ (1940، وطبع العمل كاملا عام 1955) ومولد النسيان الذي نشر للمرة الأولى عام 1945..وتأصيلا لكيان الذي جمع فيه شتات كتاباته الأدبية والفكرية طوال حياته…

[2] — https://www.facebook.com/e.bibliot/posts/863697953726100

[3] – https://www.alaraby.co.uk/

[4] – محمود المسعدي، السدّ، تقديم توفيق بكار، دار الجنوب للنشر- تونس(1992)، ص9

[5] – المسعدي، السدّ، ، شمال إفريقيا –تونس –(1955)، ص128

[6] – ينظر لسان العرب لابن منظور، دار صادر –بيروت- ط1، 3/458

[7] – ينظر المصدر نفسه، 1/58، 11/510، 11/512، 11/511

[8] – فريدريك نيتشه- شيطان الفلسفة الأكبر، مجدي كامل، دار الكتاب العربي – دمشق – القاهرة- ط1 (2011)، ص200

[9] – السدّ، المسعدي، ص10

[10] – المسعدي، السدّ، ص17

[11] – المسعدي، السدّ، ص56

[12] – لسان العرب ، ابن منظور، 1/334

[13] – لسان العرب ، ابن منظور، 1/334

[14] – لسان العرب ، ابن منظور، 1/335

[15] – معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار الفكر- بيروت ، 1399هـ / 1979م، 1/80

[16]– م.ن، 1/81: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ، الأزرقي، تحقيق رشدي الصالح ملحس ، دار الأندلس ، بيروت،2/266.

[17]http://faculty.yu.edu.jo/mohmah/SearchView.asp?SearchID=7

[18]http://arab-ency.com.sy/detail/3679

[19]http://ar.wikipedia.org/wiki

[20] – البقرة، 126

[21] – البقرة، 36

[22] – المسعدي، السدّ، ص128

[23] – المسعدي، السدّ، ص126

[24] – في علاقة الأدب باللسانيات- السدّ لمحمود المسعدي مثالا، الدار التونسية للكتاب،(20011) 110.

[25] – نيتشه، فؤلد زكريا، دار هنداوي – المملكة المتحدة – (2010)، ص 123.

[26] -المسعدي، السدّ، ص56

[27] – الكتاب، سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي-القاهرة، ط3(1988)،4/64

[28] – شرح شافية ابن الحاجب، ركن الدين الأستراباذي، تحقيق د/ عبد المقصود محمد عبد المقصود، مكتبة الثقافة الدينية، ط1(2004)، 1/252.

[29] – نيتشة، مجذي كامل، ص162

[30] – المسعدي، السدّ، ص57

[31] – المسعدي، السدّ، ص169

[32] – المسعدي، السدّ، ص180

[33] – المسعدي، السدّ، ص178

[34] – المسعدي، السدّ، ص70

[35] – المسعدي، السدّ، ص157

[36] – المسعدي، السدّ، ص100

سيميائية الجبل في رواية السدّ لمحمود المسعدي* د/إسمهان ميزاب. جامعة الشهيد حمّه لخضر-الجزائر-   ملخّص:      يعدّ السدّ للمسعدي[1] نصّا عصيّا على التّصنيف والقراءة والاستقراء والتحليل، باعتباره يغرف من فلسفات وأفكار عدّة، فهو  يتناصّ مع المبنى القرآني و المعنى الملحمي الأسطوري الوجودي والفكر النّتشوي؛ حيث تمكّن الكاتب من نسج جبل من المشاهد الصّادمة في قالب سرديّ مبتكر، ينأى عن الصّورة النمطيّة للسّرد، واختار شخوصا مرئية، وأخرى نورانيّة، وتخيّر من الأماكن سفح جبل أخشب غليظ، دون تحديد لجغرافيا المكان، أو ضبط للزّمان قصد أنسنة الموضوع باعتباره رجلا صاحب رسالة في الحياة. فما مضمون هاته الرّواية، وما هي دلالات الجبل فيها؟ مقدّمة:…
تقييم المستخدمون: 4.35 ( 1 أصوات)

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

التغيير  الواعي في المؤسسات التربوية  قفزة نحو الحياة المؤسسية    

التغيير  الواعي في المؤسسات التربوية   قفزة نحو الحياة المؤسسية          المرحلة المعاصرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *