الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / قراءة انطباعيّة للمجموعة القصصيّة “بقعة حلم” بقلم بسمة الحاج يحيي

قراءة انطباعيّة للمجموعة القصصيّة “بقعة حلم” بقلم بسمة الحاج يحيي

غلاف بقعة حلم للقاصة نجاة نوار

قراءة انطباعيّة بقلم الأستاذة بسمة الحاج يحيى

للمجموعة القصصيّة بقعة حلم

للكاتبة والقاصّة نجاة نوّار من تونس

الأستاذة بسمة الحاج يحيى

بقعة حلم،

هو كتابة حالمة لكاتبة أتقنت مسك القلم وتشكيل الحروف وقيادة زمام اللّغة بحرفيّة عالية وبلغة متمكّنة. لغة رغم سلاستها واسترسالها إلّا أنّ معجمها ينمي عن تمكّن عميق للّغة وهذا التّمكّن لعمري لم يأت من فراغ، فقد كشف السّتار عن مطالعات كثيرة، قيّمة، تعود بالتّأكيد لسنيّ طفولتها ممّا لا شكّ فيه..

و بقعة حلم؛

هو عنوان مجموعتها القصصيّة الأولى في طبعتها الأولى سنة 2021 بالمطبعة الثقافيّة المنستير تـــــونس للمؤلّفة والكاتبة الواعدة نجاة نوار، أصيلة مدينة بن قردان تـــــــــونس، وهو العنوان نفسه الموسّم للقصّة الأخيرة بالمجموعة التي بين أيدينا والّتي تضمّ خمسة عشر قصّة.

بقعة حلم؛

مجموعة قصصيّة افتتحتها القاصّة بإهداء جميل، بديع، لا يقلّ شاعريّة عن لغة ومفردات النصوص الّتي وردت بالمجموعة، فأسلوب كتابات القاصّة نجاة نوار يتميّز بعمق التعابير وبشاعريّة اللّغة الّتي عودتنا بها، كما تجدر الإشارة هنا إلى أنّ للأستاذة نجاة موهبة وقدرة فائقتين في الوصف الدقيق والجميل ممّا يساعدها على خوض تجربة كتابة الرواية لما تمتلكه من سلاسة في الوصف والسّرد دون أن يملّ القارئ من أسلوب كتاباتها الشيّق والشفيف والرّشيق..

أمّا الطريف بالمجموعة القصصيّة والّذي لايمكن أن نمرّ به دون أن نأتي على ذكره، فهو عنوان القصّة الأولى من المجموعة، ألا وهو “نجــــــــاة”. فنجــــاة هو اسم البطلة، بطلة صغيرة لم يكن لها دور بالنص بيد أنّ الأقدار التي دفعت بها لتقحمها عند آخر منعطف للقصّة جعل منها بطلة كما جعل من الطّرافة بمكان لتؤثث المجموعة وتختمها منذ البدء أن هنا تولد “نجاة” البطلة الصغيرة وهنا تولد “نجاة” الكاتبة والقاصّة التي تشرفنا بحضورها اللّيلة لتقصّ علينا أولى قصصها؛ ونعود إلى “نجاة” البطلة الصغيرة الّتي لاحت كتباشير الفرح حينما انبثقت مع انبلاج الفجر وتحديدا بعد معاناة كابدها أب ملاحق من قبل الجندرمة قضى طوال اللّيل يسير متخفيا عن أعين المحتلّ، حيث أتمّ مهمّته في كنف الظّلام والخوف والخطر والألم، في حين كانت الزوجة هنالك في البيت تصارع بدورها آلاما مغايرة تحملها بين دفّتي الحياة والموت، ثمّ صباحا تنفرج الأسارير على ابتسامات الصباح بوصول الأب أخيرا بعد مخاض ليلة كاملة قضاها يسير متخفيا ليأخذ نفسا عميقا عندما تلقّى بشرى وضع أنثى ببيته، فيسمّيها “نجــــاة” تباركا وتيمّنا بنجاته التي كادت تزهق روحه لولا كمّ الحذر الّذي اتّخذه وكمّ الصّبر الّذي تحلّى به حتى يصل مع انبلاجات الأمل عند الفجر.. فكانت نجاته وكانت “نجـــــاة” المولودة الجديدة الّتي أطلّت علينا بآخر النص وهي نفسها “نجاة” القاصة التي أعادت علينا بسردها المميز فصول وأطوار يوم ولادتها، “نجاة” كاتبتنا والمؤلّفة لهذه المجموعة القصصيّة الثريّة “بقعة حلم”.

الكاتبة نجاة نوار / تونس

نمرّ إلى بعض القصص التي تتضمّنها المجموعة، وهي بدون استثناء، كلّها تحمل نفسا مميزا، كتبت جميعها بلغة بليغة، عميقة استعملت خلالها الكاتبة أساليب متنوّعة من البلاغة بإتقان يهمس بأنّنا برفقة قلم صاعد وواعد.

سنتناول بالدّرس بعض النصوص لتكون وجبة دسمة وممتعة لجولتنا الأدبية والسرديّة هذه، لما تتميّز به من جمال في التعبير وهي حقا متعة سنحلّق معها سويّا..،

وسأبدأ بقصّة دون اعتماد الترتيب الوارد بالمجموعة ومن ثمّة سأمرّ إلى ما سيليها حسب الطرافة التي شدّتني وأسرت تفكيري وشغلت أو أثثت قراءتي…

قصّة فستان العيد:

وهي القصّة السّابعة بالمجموعة،

من خلال هذا النّص أبدت القاصّة، نجاة نوّار، قوّة رهيبة في القدرة على الولوج إلى مكنونات النفس الدّاخليّة، قدرة عجيبة سمحت لها بالتنقل بين خلايا النفس  وكطائرة “درون” راحت ترصد انحناءات الطريق المؤديّة لسفرتها تلك وكشف ملتوياتها وهضابها. ومن ثمّة شرعت في تشريح خلايا النّفس خليّة خليّة بمشرط عالي الجودة، بليغ، حصيف وفصيح. إذ افتتحت نصّها بسؤال مباغت؛ جملةً استفهاميّةً كان، بل ورد مفردة واحدة وحيدة مرفوقة بعلامة استفهام معتبرة؛   أتدري؟  

أتدري .. وكأنّها تخاطب شخصا حاضرا معها، تقديره “أنت”  للمتكلّم حسب تصريف الضمائر، ومع ذلك فقد حلّقت بنا بعيدا عن المتكلّم الحاضر  الّذي وجّهت إليه سؤالها: “أتدري؟”.. حلّقت بنا بعوالم أخرى، عوالم لا يقدر على ولوجها إلّا من تشبّع قلمه بحبر الكاتبة “نجاة نوار”.. أخذتنا بمتاهة عوالمها الدّاخليّة، وصخب من أعماق نفسها تجلّى حتى يدرك القارئ أنه برفقة موهبة سيّارة أو موهبة محلّقة بسماوات عالية… فقد حملتنا منذ البداية، بعتبات النّص الأولى، نحو عوالم بأعماق النفس البشريّة، ..

وبدل أن تضعنا بإطار مكاني يسهل علينا عبره التجوال بأغوار مدينتها، تعمّدت وضعنا بإطار نفسي دقيق وذكي جدّا.. وتوغّلت بأغوار النفس البشريّة وبتلافيف الرّوح فقالت: انزلقت بلحظة إلى أحد الأزقة الخلفية المهجورة….باغتت روائح عتيقة حواسي واخترقت خلاياي.. سافرت في دمي.. أقامت بمداخل الشريان يافطات للترحيب أو للنحيب.. انفتحت بالعمق كوّة رهيبة….. ‘

وراحت من ذلك الوصف للنّفسيّة من وصف إلى وصف لحالات الجسد التي كانت كلها تصبّ في إحساس الألم لكن من الجميل المميز لكتاباتها أو للوصف هذا أنّ الكاتبة لم تصرّح عن الألم، بل هي  دعتنا نستشعر معها ذلك الألم حين قالت: جيوش من النّمل الأسود تندفع من فوّهة النسيان.. أسمع دبيبها يجوس بجسمي. يتسلّق جذعي ويشكّل مسارب مع  انحناءات عمودي الفقري.. قوائمه القصيرة الدّبقة يحدث احتكاكها بسطح جلد ساقيّ المكشوفتين نمنمة مربكة.. عيونه اللّامعة الملساء تحدّق بسخرية سوداء واضحة النبرات.. وشفاهها الرّقيقة المجعّدة تفترّ عن أفواه سوداء تطفح لزوجة.. تنتظر اشارة .. لتسدّد مناشيرها المدبّبة المسنونة لوريديلم لا ينبض هذا الوريد بعنقي؟.. اختفى حسيسه وإيقاع الخطو العنيد المقترب من قفاي يتعاظم.. يتبلّد عقلي..يفترس الخدر أطرافي….. دبيب النمل يفلي مفرقي.. ثقوب كثيرة تنبعج بجمجمتي وتنسرب الجيوش لدماغي…” ص 40

وانفتح لنا إطار نفسيّ تمكنت من خلاله القاصّة نجاة نوار من العبور بعمق النفس و بباطن الأحاسيس، ونحن لا نزال بالبدايات ولم نتلقّ بعد الإجابة على السؤال المطروح آنفا، ولوهلة وأنا أتدرّج معها مستكشفة ما بعد الحدث، لوهلة خلتني أمام رواية وأنّ القاصّة تمهّد لسرد أحداث رواية لما لأسلوبها الخاص في رصد آليّات الوصف من مخاتلة وفن السرد في آن، إذ بدت البداية المطوّلة بالنص القصصي فستان العيد كأنّها تمهيد لأحداث رواية وهذا ما يحسب للقاصة نجاة، رغم شروط القصة والتي من ضمنها التكثيف لبلوغ الهدف بسرعة رصاصة، لكنه يحسب لها إذ من ناحية  هو يعكس بوضوح قدرتها على خوض غمار الرواية، ومن ناحيةة أخرى، لم يخلّ طول الوصف من خصوصيّة القصّة القصيرة بل هو جعلنا كقرّاء نستشعر معها حالة الألم التي طالت لتوقضنا على حين غرّة على همسة مباغتة؛ همسة انتزعتنا من باطن النفس المتعبة لتحيلنا مباشرة نحو عالم مغاير، عالم بضغطة على زر ” فلاش باك” جعلتنا نتوه مجدّدا بثنايا تسير عبرها طفلة صغيرة وهي تمسك بيد والدها يجوب بها شوارع المدينة وبوّابة فرح انفتحت كثقب ضوء ضئيل مرّت عليه القاصّة مرورا سريعا وكأنّ الفرح قشّة صغيرة بين أكوام الألم، عبرته القاصّة بعجالة ولم تستعمل لأجله مجازات ولا مقارنات ولا أطنبت الوصف لتشعرنا بالفرح كما جعلتنا نستشعر الألم سابقا. وهذا ما يجعلنا نلامس مجدّدا جمال الأسلوب المستعمل في كتابات القاصّة نجاة نوار، فبعد تسكعها بماضي طفلة صغيرة ونبشها لأفراح الطفلة، وبعد إعادة السؤال نفسه وهي تخاطبه، هو، ذاك الحاضر الغائب، صاحب الضمير “أنت“، لتكرّر للمرة الثانية نفس ذاك السؤال: “أتدري..؟” “بينما هي تتسمّر أمام فستان أحمر.. أتدري.. أحفظ إلى اليوم تصميمه.. ملمس قماشه.. وفرحتي يوم ارتديته…” ثمّ  وكأنّها تمحو بممحاة الحزن تلك الصورة المباغتة لطفولتها لتعيدنا حيث كنا منذ البداية، فقد طوّعت اللّغة والمعنى والمجاز والكناية والإستعارات جميعها أو كلّها لتقول بصريح العبارة، كما ورد بالصفحة 42: غبيّ من ابتكر ذاك التشبيه الهزيل  كصمت المقابرليس للمقابر صمت.. هنا كل اللّغات سافرة .. مسافرة في براح المعنى.. لا تحتاج أحزمة المجاز و لا أثواب الكناية الفضفاضة و لا معاطف الإستعارات الثقيلة.. لغة بسيطة تقول الكاتبة، يفقهها الطّير والشجر والغيوم

إذن هنا فقط يبدو أن القاصّة سمحت لنا أن نطأ أرض الواقع وسمحت لنا أن تلامس أقدامنا إطارا مكانيا حقيقيّا، فنحن إذن بمقبرة، برقعة أرض تحمل بباطنها أمواتا، إذن نحن بحضرة ذلك الغائب الحاضر، ذاك الذي استدعته بتقدير ضمير المخاطب لتسأله ولتحاكيه، لتعيد معه فصول ماض كانت عبره طفلة، ثمّ فصول ألم تستشعرها أوّل ما انزلقت خطواتها بتلك الأزقّة وانفتحت عبرها مسارب الألم والحزن والوجع.. حين صوّرت الحنين دبيب نمل، وصورت الألم أسنانه المدبّبة كما رسمت فصول الشوق بمرارة لزوجة تلك الجيوش المنبثقة والغازية لجسدها..

وعلى مداد صفحتين ونصف الصّفحة كانت رحلتنا بقيادة القاصّة نجاة، تحملنا من واد إلى واد ومن ألم إلى شوق ووجع، والحدث الرئيس هنا هو عبارة عن وقفة تأمّل أو لحظة تأمّل. وبين لحظة تأمل ولحظة أخرى تتجلّى النفس حدّ العمق، وبين لحظة تأمل أمام قبر عزيز مغادر وبين ذكرى فرحة أهداها على شكل لون أحمر لفستان عيد طفلة صغيرة، انتشرت جيوش الكلمات الحزينة الموجوعة على مداد صفحتين ونصف الصفحة  لتعلن بآخر السطور القليلة المتبقية بالنص، لتعلن همسا حديثها لذلك الحاضر الغائب، ذلك الأنت، متمّمة تساؤلها قائلة، له، : “….وطفلة…… تنتظرك ككلّ عيد لتعود بالفرح.”    

فالقصّة وقفة تأمّل بين لحظة ولحظة، بين عيد وعيد، بين حزن ووجع، وبين مجاز وكناية واستعارات كما تقول القاصّة، أحزمة المجاز .. أثواب الكناية الفضفاضة .. معاطف الإستعارات الثقيلة..  وبين عنوان مخاتل “فستان العيد”حملتنا القاصة لنغوص معها داخل عوالم ضيّقة خانقة رغم عمق مساحتها.. فأهمس بدوري للكاتبة أنّها أتقنت المخاتلة، ابتداء من العنوان، ثمّ استدعاء ادوات الكتابة من مجاز واستعارات وكناية رصفتها على امتداد حوالي الثلاث صفحات، وصولا إلى سفرها بحقبة زمنية بعيدة في العمر كما هي بعيدة بالفرح الذي ظلّ ذكرى لم تجرؤ أن تستدعي لأجلها لا مجازا ولا كناية ولا حتى استعارات فلم تدعنا نغوص معها بمشاعر فرح بدت كومضة سرعان ما انطفات وكأنّ فصول الفرح ضبابيّة بحياتها أو كأنّ الفرح مواسم ضئيلة استكثرت لأجلها الحروف فشحّت الكلمات وغابت وغامت عن قاموسها.. وبقي الفرح لغزا معلّقا على مشجب الإنتظار بآخر النّص..

ولغة راقصة بين الشاعريّة وبين وخزات الوجع، تتداخل العبارات وتزدحم المشاعر لتحتلّ غالبيّة النّصوص بمجموعة “بقعة حلم” للقاصّة نجاة نوار، حيث نجد بالقصّة المعنونة بــ”طواحين القدر” وهي القصّة التّاسعة بترتيب المجموعة، تأكيدا لهذه الزّاوية الجامعة بين الوجهين لكتابات القاصّة، الوجهان الملاصقان على الدّوام لحياة أبطال نصوص الكاتبة؛ الفرح الضّئيل والوجع الضخم.. “طواحين القدر” قصّة من أربع صفحات، وردت على جزئين صارخين في التناقض، أو بالأحرى وجهان لمفارقة التناقضات،.. فبقدر ما ورد الجزء الوّل راقصة حروفه، ثملة عباراته بلغة شاعريّة ساحرة، بقدر ما انعطف بنا المسار ليرسم خيبات الألم والوجع .. فنراها في قولها: بصفحة 52 وهي ترسم بشغف الوجه المشرق للفرح ولمشاعر العشق والمحبة، مشاعر هي رمز الخلود وعنوان الحياة: “طريقتك لذيذة ومبتكرة وأنت تكتبين بطريقة مائلة على أوراق بيضاء خالية من الأسطر. لا أحد يفهم أنّك تكرهين استقامة الخطوط والإتّساق والأنساق الجاهزة. توقيعك كان دوما زهرة صغيرة ملتفّة البتلات. كنت أبتسم، أتحسّسها منتظرا يوما تتفتّح فيه أمام ناظريّ….. أقبّل الوردة برسائلك، أسقيها ملح عيني؛ فقد كنت أعجز من أن أرويها من وريدي، أبعث منها آلاف البساتين.. أعلّق رسائلك على مشاجب أضلعي، أعمّدني بطهرك وأصلبني بهيكلك، أمدّ روحي إلى لهيب شمعك المنصهر، وأتلاشى كطيف في الدّخان أخطّ تهانيّ وأمنياتي بحبر لا يشبه حبر دواتي” ثمّ بغتة، تسأل القاصّة وقد كشفت النقاب عن الوجه الآخر لمرآة المشاعر، ذاك الوجه القاتم والمؤلم، فنقرأ معها ما رسمت دون أن تضع الألوان بسخاء عند هذا الوجه: ” ربّما لاحظت غرابة هذا اللّون؟” لتجيب بكل مرارة: “لا تعجبي من تلك القطرات التي تحرق أطراف الصّفحات، ذاك نقيع الحزن من كبدي.

وكأنّ ” شوط إضافي” وهو عنوان القصة رقم إحدى عشر  بالمجموعة والّتي تحتلّ الصفحة 57 بالكتاب وصولا إلى الصفحة 61، كأن هذا الشّوط ورد ليؤكّد النسق المميز لأسلوب الكاتبة..  حيث كمّ الوصف انهال بزخم بقدرة فائقة على الرّسم والتّلوين العجيب، فنجد مثلا بالصفحة 58 قولها: “انهمكت في القراءة وسافرت بين المعاني اذرّ حفنات من جميل البيان على رتابة يومي وأذيب في بحار المعنى شيئا من آلامي..” ولكن أشدّ ما يدهش ويشدّ الإنتباه هو وصفها لحالة مريضة على وشك استئصال ثديها بعد حصص عديدة من العلاج الكيميائي، بنفس القصة “شوط إضافي” بالصفحة 60 حيث قالت: ” انصرف الطّبيب وحلّت أسراب الهواجس وطوابير التّخمينات. امتدّت يدي تلقائيّا تجسّ زوج طواويس كانا يختالان بكبر ويفيضان فتنة وخصوبة، حنانا وأمومة. بات يكوّرهما الألم وينزّان وجعا ويخفيان عدوّا يلتهمني بنهماستعطفت ملح العين يغسل طراوة الجرح فما رقّ ولا عطف.

 القاصّة نجاة نوار ومجموعتها الأولى “بقعة حلم” والّتي تحوي خمسة عشر قصّة امتدّت على مسافة 87 صفحة، ومسافة سفر وطوفان حملتنا على جناحيهما ليجد القارئ نفسه ينعم تارة بدفء الكلمات وشاعريّة العبارات ويغرق تارات كثيرة بطوفان الألم وقارب من صنع القاصّة صنعته من عبق الكلم ومن سحر الحبر، تغوي راكبه فيستقرّ بقراره وقبل أن يربط حزام الأمان تنطلق به كخيل جامح، تغويه بعبور لا يعترف بحدود لتتلقّفه أمواج المجاز والكناية تحمله في البدء بلين على قطن السّحب النّاعم فيسلّم مقاليد روحه أملا بالنزول عند شاطئ الأمان بجنان خلد طرّزتها بعمق الحنين والمحبّة والعشق الجارف أو هي رمتها طعما لغواية من يتسلّل بين سطور حكاياها، لتطلّ فجاءة كحوريّة بحر، فتغرقه بلجّ بحر عواصف الألم والوجع والحزن.. فكاتبتنا لا تصف الألم ولا الوجع بقدر ما ترشّ رذاذ الفرح كطعم تنتشل به ضحاياها قبل أن تجعلهم يكتوون بمرارة الوجع دون أن تضمّخ عباراتها بالألم هي فقط تستعير الألم لتزرعه بثنايا الحروف تماما كما تزرع العشق ورومانسيّة العشق والعشّاق ألغاما كاشفة لما وراء الرّومانسيّة وما يتخفّى خلف الفرح وبتلات المحبّة.. قدرة القاصّة في التّلاعب بمشاعر وأحاسيس القارئ تتجلّى في ملاعبته بهدوء وبساطة قبل أن تضغط على زرّ عالي التردّد يحمله من بحر إلى بحر مغاير تماما ومن ضفّة شرقيّة ساطعة شموسها لتلقيه بحزم وهمّة عند ضفّة غربيّة قاتمة هجرتها شموس الفرح ونسائم الأمان، ضفّة أتقنت وتفنّنت القاصّة في رسمها ورسم حدودها لتغرق داخلها كلّ متيّم ولج باب أو أبواب السّرد خاصّتها، السّرد الممتنع الّذي جعل من نصوص الكاتبة نجاة نوار، نصوصا مميّزة، نصوصا مبهرة، نصوصا تسير وفق نسق القصّ المكثّف القصير لكن ينبئ عن تمكّن واع لولوج السرد المطوّل، فكلّ نص أو أقصوصة بهذه المجموعة ينبئ عن مشروع رواية إذ أنّ أدوات السّرد الطّويل لا يفتقر إليها قلم الكاتبة نجاة، وكلّ نص بحدّ ذاته بقي مفتوحا على نهايات ونوافذ عديدة ممكنة لما لزخم الأحداث الواردة بها والتي تضاهي زخم المشاعر والأحاسيس وروعة وصفها ونسجها بحرفيّة.

مجموعة “بقعة حلم” تحيلنا إلى الثنائيّة “بقعة ضوء” والّتي تحمل معنى الأمل والنّور في خظمّ الظّلمات، فيأتي الحلم بدوره شرارة أمل وفرح بخضمّ الواقع المرير والقاتم.. و”بقعة حلم” كما ورد بغلاف الكتاب والّذي ورد على شكل مرآة كبيرة في فضاء خارجي ممتدّ الأطراف تحيطه الجبال الشامخة بينما طير وحيد محلّق بالأعالي وقد تناثر ريشه بالمكان الفسيح وتطاير بوضوح على سطح المرآة الّذي عكس حركته والتقطها بأمانة لينقلها لنا على المباشر، فكانت بعض الريشات المحصورة داخل إطار المرآة متناثرة بدورها إلى جانب العبارة: “مجموعة قصصيّة” وكأنّ مصمّم الغلاف تعمّد حصر العبارة وتلكم الرّيشات عمدا ليضعنا أمام واقع لا يشبه الحلم، واقع تناثرت أطواره بين نصوص المجموعة التي نقلت إلينا أطوار حكايا عديدة لتخبرنا أنّ الواقع هو ما تناثر كريش طير هارب نحو الحلم ينشده بالأعالي هروبا من واقع عكسته المرآة وحصرته بين حدود إطارها، بينما بقيت عبارة “بقعة حلم” معلّقة بعيدا بأعلى الغلاف تشعّ بلون أصفر باهت. أمّا الطّير المحلّق فهو قاب قوسين أو أدنى من العنوان المصفرّ البعيد عند حدود الغلاف العلوي، فاردا جناحيه، تاركا ريشه المتناثر يسّاقط بالأسفل عند حدود إطار المرآة، وفتاة تمسك بهمّة بزمام مرآة الواقع، مديرة وجهها نحو جانب الطّير وأمامها مباشرة بلون أبيض ناصع العبارة: “نجاة نوار” بطلتنا بأوّل قصّة وكاتبة المجموعة موضوع القراءة، شعرها أسود منسدل تماما كما فستانها بالغلاف منسدل ربّما هما الآخران ينشدان الحلم العالي، فلا الواقع انسلخ عن محيط الفتاة موضوع الصّورة ولا الحلم ارتحل عنها بعيدا، بل ظلّ يداعبها كما داعب أبطال القصص بالصفحات الدّاخليّة قبل أن يجرفهم نحو عوالم أخرى، فنرى عبارة “البقعة” تلامس رأس الفتاة فتداعبها بينما عبارة ‘الحلم” فتظلّ على كبريائها بالأعلى ترنو لمن يطأ معها سقف العلوّ وسقف الجمال وسقف الشّموخ..

قراءة ممتعة

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *