الرئيسية / مجتمع / محمد صالح البحر : الحقد طاقة غير خلا قة والشهرة ليست هدفاً رئيسياً

محمد صالح البحر : الحقد طاقة غير خلا قة والشهرة ليست هدفاً رئيسياً

الحقد طاقة غير خلافة والشهرة ليست هدفاً رئيسياً

محمد صالح البحر : الحقد طاقة غير خلاقة والشهرة ليست هدفاً رئيسياً

إعداد وتقديم: هناء نور

#اسأل_ابن_كارك 

محمد صالح البحر، حامل حقيبة الرسول، والشاهد على موت وردة، وقسوة الآلهة، لا يرى الأديب منفصلا أو مختلفا عن الأديب بداخله، وفي هذا الحوار حاولت الاقتراب “نصف مسافة” من عالم البحر..

بداية: كيف تحب أن تعرف ذاتك؟

على المستوى الإنساني هناك جانبان للذات يتم تعريفها بهما، التعريف الاسمي، والتعريف الإنساني، وغالبا لا يكون للإنسان دخل في اختيار هذين التعريفين، بل يجد نفسه محبا لأن يكون اسمه هكذا، وصورته في عيون الآخرين وأذهانهم هكذا، دون أن يكون لديه مبرر أو تفسير منطقي لذلك، والحقيقة ـ أو على الأقل ما اكتشفته أنا في ذاتي ـ أن الإنسان يخضع بشكل خفي لما تُحبه ذاته في هذا الشأن، لذلك نحن نُعَرِّف ذواتنا كما تُحب هي لا نحن، ولا نملك إلا أن نُحب محبتها، لأننا نعلم أن ذواتنا هي التعبير الحقيقي الكامل لنا، الذي لا يخضع لأي ظرف من ظروف الحياة التي تُجبرنا على غير ما نريد، ومن هذا المنطق فأنا أحب أن يكون اسمي على لسان الآخرين “بحر”، وأن تكون صورتي في عيونهم وأذهانهم هي صورة ذلك الأديب الذي يقدر أن ينال تقديرهم مع كل قصة يسردها عليهم.

أما على المستوى الإبداعي فأنا دائم الإيمان بأنني لم أصل بعد إلى التعريف الذي أحب أن أكون عليه، لكنني أجتهد وأتمنى.

ما هي أقرب الفنون إلى نفسك، وأي فن يحرك في نفسك الرغبة للكتابة؟

السينما، كانت وما زالت وستكون، هي الفن الأقرب إلى روحي، ودافعي الأكبر للكتابة، الفن الذي علمني أن ما نقوله، وما نفكر به، يمكن أن يتم تجسيده ليراه الآخرون، وأننا نستطيع التأثير فيهم عن طريق ذلك، ولأننا في الصعيد لا نستطيع أن نصنع الصورة، ولأن القراءة كانت الوسيلة الأقرب، أو الأيسر، في ذلك الوقت البعيد، وجدتُ بغيتي في التجسيد بالكلمات، لذلك أعشق السرد السينمائي، ومن السهل جدا أن تجدي الكثير من تقنيات السينما في أعمالي السردية، إن رؤية فيلم جيد بالنسبة لي توازي تماما قراءة رواية جيدة في زمن قصير.

يُقال عن الأدباء إنهم شخصيات مزاجية، وأنا أرى المزاجية سمة خلاقة، وتتيح أحيانا إضافة لمسة جنون إلى العمل الفني.. فهل ترى نفسك شخصية مزاجية؟

رؤيتك صحيحة، ودقيقة في ذات الوقت، بل أراها توصيفا حقيقيا لما أؤمن به، ولما يجب أن يكون عليه الإبداع، ولا أعتبر نفسي مبالغا عندما أقول إن الإبداع الحقيقي يجب أن يتكئ على تلك المزاجية في الكتابة، طالما كانت تعني أن الكتابة هي التي تنادينا، وليس نحن منْ يذهب إليها، اختمار الرؤية لأي عمل إبداعي قبل الشروع في كتابته يحتاج إلى وقت، وعلامة اكتماله هي نداء الكتابة على المبدع، كي يرفعه عن وعيه المُثقل ويضعه على الورق، المبدع ليس موظفا مرتبطا بالوقت، ولا ممثلا مرتبطا بفكرة التواجد، ولا سياسيا مرتبطا بواجب الظهور، المبدع نبي ذاته فقط، ونبي منْ يؤمن به طواعية دون تبليغ، لذلك فارتباطه الوحيد يجب أن يكون بالوحي، ووحيه نداء الكتابة له، دون شرط أو قيد.

سؤال قد يكون تردد عليك كثيرا، لكني أظن أن التجارب والخبرات تجعلنا نعيد اكتشاف أنفسنا ورؤيتها بشكل مختلف، فماذا كانت تشكل الكتابة لمحمد صالح البحر في بدايته، وكيف أصبح يرى الكتابة الآن؟

أستطيع القول بأن الكتابة كانت ـ ولا تزال ـ المنقذ بالنسبة لي في كل المراحل العمرية، المنقذ من اللهو وأنا صغير، ومن شتات الحب المستحيل وأنا شاب، ومن جنون العالم الآن، أعتبر نفسي إنسانا محظوظا إلى أقصى درجة، نشأت على محبة القراءة في البيت، فقد كانت أمرا طبيعيا كالأكل والشرب والملابس، وفي المراحل التعليمية المختلفة، ابتدائي وإعدادي وثانوي، امتلكت مدرسين كانوا يُدركون جيدا أهمية المعرفة إلى جوار العلم، لذلك ربطونا دائما بالمكتبة، فزادت بداخلي محبة القراءة حتى صارت جزءا من ذاتي، لم يستطع أن ينتزعه من داخلها شيء، ولا حتى محبة ممارستي لكرة القدم التي كنت مجنونا بها، وقد ألهمني ذلك إلى اكتشاف نفسي، تعمُقُنا في قراءة الكلمات يدفعنا دفعا إلى النظر العميق بدواخلنا، ومحاولة اكتشاف الذات، هكذا اكتشفت محبتي لكتابة موضوعات التعبير، ومع الوقت استطعت تطويرها لتشبه القصص التي أقرأها، حتى صارت قصصا موازية تخصني، ومن وقتها لم أحلم بشيء إلا أن أكون كاتبا يقرأني الناس، ويتأثرون بما أكتب، لم أحلم إلا أن أكون واحدا مثل هؤلاء الذين شكلوا خيالي وأنا صغير، وعلموني أن محبة العالم تبدأ من محبتنا لأنفسنا، وقدرتنا على معرفة جوهرها الحقيقي، وسر وجودها في الحياة، الكتابة بالنسبة لي الآن هي المنقذ من غواية العالم، وعبثيته المفرطة، ونزوحه الدائم باتجاه التفاهة.

محمد صالح البحر

كتبت في النثر، والقصة القصيرة، والرواية، والمقال، والسيناريو، والمسرحية، أي هذه الأنواع أقرب إليك، وهل تميل إلى تصنيف الكتابة؟

أنا سارد بطبيعتي، أعشق الرواية والقصة القصيرة، ولأنني أميل إلى الرؤية الشاملة، المكتملة، أعشق الرواية أكثر، وكل كتابة ما عدا ذلك هي “تمرين على الكتابة” بين روايتين، أو قصتين، لإبقاء جمرة الإبداع مشتعلة بداخلي، وربما لأن بعض الأفكار يفرض تجسيدها شكلا مغايرا عن السرد القصصي، ما اكتشفته داخلي أن الروائي لا يكف أبدا عن التجريب، وروحه شاعره.

ولا تنسِ أنه في البدايات كان يُطلق على المسرحية والفيلم لقب “رواية”، الأمر كله في اعتقادي مرتبط بالدراما، وإن اختلف الشكل.

أما تصنيف الكتابة من حيث النوع فهو أمر مهم، لأنه يرتبط بتنوع الفنون الإبداعية، وفي رؤيتي المتواضعة أنه كلما زاد تَحَضُر العالم، زادت حاجته إلى اكتشاف المزيد من أنواع الإبداع المختلفة، الإبداع طاقة هائلة للتعبير والبقاء في الزمن، لا تفنى، ولا يمكن حصرها في قوالب أو مسارات محددة، أو منفصلة، إنها دائمة الامتزاج والتداخل والتوالد، والإنسان دائم الحاجة للتعبير عن نفسه. 

كم مرة وقع محمد صالح البحر في الحب، وهل كان للحب أثر ايجابي في تجربتك الحياتية حتى الآن؟

لا يوجد إنسان تخلو حياته من الحب، وفي أمر الحب هذا أعتبر نفسي محظوظا إلى درجة كبيرة، فقد منحتني الحياة منه نصيبا وافرا، وحقيقيا، وصادقا، كل تجربة مرَّتْ بي علمتني شيئا، وأضافتْ إلى روحي حتى انتهيتُ إلى محبة الحب نفسه، الحب قيمة إنسانية كبيرة وعظيمة بكل تأكيد، ولولاه ما ظل للبشرية وجود حتى الآن، فالإنسان يحيا سلامه النفسي به، ويتعارف به، ويتناسل به، بل لا يصير إنسانا من الأساس إلا به، أخبرتكِ منذ قليل أنني لم أحلم بشيء إلا أن أكون واحدا مثل هؤلاء الكُتاب العِظام الذين شكَّلوا خيالي وأنا صغير، وعلموني أن محبة العالم تبدأ من محبة النفس، وقد علمتني التجربة أن منْ يُحب نفسه بصدق يُحبه الناس، هذه المحبة هي التي تجعلنا نسعى في الحياة لنتحقق، لنشكل من وجودنا قيمة تبقى من بعد، الحب ليس مفردة سهلة، وليس رخيصا كما يظنه كثير من الناس، الحب قدرة هائلة على الصدق والعطاء والتسامح، ليس بمقدور أي أحد أن يحملها، فإذا كانت هذه الطاقة العظيمة للحب هي التي تُشكل الحياة، فهي أيضا التي تُشكل الإبداع، لذلك ستجدي أن معظم الروايات تدور حول الحب، حتى وإن لم يقصد الكاتب ذلك بشكل مباشر، حتى وإن لم يكن الحب موجودا فيها بشكله التقليدي كعلاقة تربط مصيري رجل وامرأة، لذلك أستطيع أن أُقر أنه كان ذا تأثير كبير على تجربتي الحياتية والإبداعية، إنه قاعدة الحياة الأساسية، ومنه يتفرع كل شيء، حتى المتناقضات التي تقتله.   

 حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المصرية والعربية، والتكريمات خلال مسيرتك الإبداعية.. كيف ترى الجوائز.. وما الذي يريده محمد صالح البحر من الجوائز؟

علينا أن نتذكر جيدا في هذا الصدد أمرين مهمين، الأول أنه منذ 15 عاما تقريبا لم يكن للجوائز الأدبية كل هذا الاهتمام الذي تحظى به الآن، ومع ذلك كانت الحياة الأدبية مشتعلة وجودا وقيمة، والثاني أن معظم رواد وأساتذة الأدب العربي الذين خلقوا من الإبداع قيمة ثقافية ومجتمعية، وتعلمنا منهم، لم يحصلوا على الجوائز التي نحصل عليها الآن، ومع ذلك ما زالوا يشكلون القيمة الأكبر لوجود الأدب العربي، تاريخيا وحاضرا.   

أما الجوائز الأدبية فهي مهمة جدا لتشجيع الكاتب، خصوصا في بداياته الأولى، فهي التي تُخبره ـ إضافة إلى أشياء أخرى بالقطع، كآراء النقاد، ومدى استقبال أعماله الإبداعية لدى الجمهور الأدبي، والنشر.. وغيرها ـ بأنه يسير في الاتجاه الصحيح، الطريق الإبداعية طريق صعبة للغاية، تحتاج إلى جهد دائم، وتستهلك عمر المبدع كله تقريبا، وغالبا بلا عائد مرجو، أو مضمون، خصوصا في بلادنا التي تتعامل مع الإبداع كرفاهية غير لازمة في كثير من الأحيان، ولا ضرر من عدم وجودها، الجائزة في البدايات مهمة جدا كحافز لاختيار هذه الطريق الصعبة بلا ندم أولا، وثانيا كدافع للاستمرار والمواصلة، أما فيما بعد فتقتصر أهميتها على دعم المسيرة الإبداعية وتقديرها رسميا، وفي تقديري فإن الكاتب الحقيقي الذي بلغ تحققه الإبداعي ربما لا يكون في حاجة إلى ذلك، وإن احتاج فإن احتياجه يصير نفسيا فقط، لكن في كلا المرحلتين ـ البدايات والتحقق ـ تظل الأهمية المالية للجائزة قائمة على الدوام، خصوصا مع الحالة الاقتصادية المتدهورة للغالبية العظمى من الأدباء.

هل تشعر بالحقد تجاه شخص أو شيء ما، وما موقفك من الحقد؟

لا أعتقد ذلك على الإطلاق، بل أعتقد أن طبيعتي الإنسانية ضد ذلك الأمر تماما، أشتغل على نفسي دائما، ولا أشغلها بالآخرين، أو بأي شيء آخر، الحقد طاقة سلبية قاتلة للإنسان، يُميت ضميره وجوهره، لأنه يدفعه لإلحاق الأذى بالآخرين، وفي مرور الوقت يتعود الإنسان على الظلم والكُره والأذى حتى يتغير، حتى يصير شيئا آخر غير كونه إنسانا، وأعتقد أن المبدع بما يملكه من ثقافة ووعي وضمير، وبصفته داعٍ حقيقي للحق والعدل والخير والجمال، يجب أن يكون أبعد الناس عن الحقد، بل محاربا له من خلال إبداعه الذي يبغي زرع القيم النبيلة في نفوسهم، وهنا ربما من المهم أن ننبه الناس ألا يتركوا أنفسهم لشعور الغيرة الشخصية، فهو أول خطوة في الطريق إلى الحقد.

أنا كقارئة لأعمالك أظن أن أقرب كتاباتك لنفسي رواية “نصف مسافة”.. كيف ترى هذه الرواية وما هو ترتيبك لها بين أعمالك.. وما أقرب أعمالك إليك؟

كل عمل للكاتب يسعد الآخرون به يُسعده بكل تأكيد، هذا هو المبتغى الأساس من الكتابة في الأصل، لكن الأمر مختلف بالنسبة للكاتب نفسه، الكاتب الحقيقي الذي يجتهد في عمله، ولا يُخرج للقارئ إلا ما يرضى عنه أولا، تصير كل أعماله قريبة إلى نفسه، من هذا المنظور أحب كل أعمالي، وأرى أن كل عمل منهم حمل تجربة مختلفة سعدتُ تماما بقدرتي على انجازها، وإن ظلت رواية “موت وردة” التجربة الأكثر قُربا وفرحا، ربما لأنها أتت في مرحلة مبكرة من العمر لتسبق زمنها، وربما لأنني حصلت بها على أول جائزة عربية، وربما لأنها أثرت في الكثير من الكتابات الأخرى بدرجة أسعدتني تماما.   

لو كان بإمكانك أن تشطب عملا من أعمالك أو سطرا في مسيرتك الإبداعية.. فماذا ستشطب ولم؟

أعتقد أنني دائم الجهد، ولا أرضى بسهولة عن نفسي، لذلك لم أُخرج عملا إبداعيا للقارئ قبل بلوغه حد الرضا في نفسي، وإلا بعدما أستطلع حوله آراء منْ أثق بهم من الأصدقاء المبدعين والنقاد، منْ لا يُحب الكتابة المجانية لدى الآخرين لن يمارسها بكل تأكيد.  

هل ما زلت تحب الكتابة، أو تشعر نحوها بنفس الشغف؟

ربما أن كلمة الحب هنا لا تكفي، أحتاج إلى كلمة أقوى كالعشق، الجنون، التوحد، كي تعبر عن مشاعري نحو الكتابة، فأنا لا أجد نفسي وسعادتي وإحساسي بوجودي الحقيقي في الحياة إلا في حضرتها، ربما لذلك أنقطع عن العالم كله وأنا أكتب، ثم هناك تلك اللذة التي أشعر بها داخلي عند الانتهاء من كتابة رواية، أو قصة، والتي لا تضاهيها أية لذة أخرى، وكأنني قد امتلكت كل شيء بين يديّ، متعة الكتابة تشبه إلى حد كبير متعة الخلق، وأحمد الله كثيرا أنني لا أزال أشعر بذلك الشغف داخلي، وكلما تقدم العمر زاد الشغف، لدرجة أشعر معها أنني لن أمتلك الوقت الكافي لقول كل شيء يعتمل بداخلي.

في عصر السوشيال ميديا حقق لبعض الكتاب في مصر والوطن العربي شهرة واسعة، مع الوضع في الاعتبار أن الشهرة ليست دليلا بالضرورة على موهبة الكاتب، خاصة مع قدرة الكثيرين على شراء مساحات إعلانية للترويج لأنفسهم ولأعمالهم.. فهل الشهرة حلم لك؟

الميديا بكل إيجابياتها، وحسناتها، وقدرتها الهائلة على تقريب العالم والأفكار ونشر الوعي، إلا أنها أحد أهم وأقوى الوسائل التي تنزح بالعالم كله نحو التفاهة والتسطيح، لقد جعلت كل شيء مجرد سلعة قابلة للعرض والطلب دون تمييز، أو انتقاء، وأداتها الرئيسية للجذب هي الإغواء، ولأن كل ما هو جيد نادر وغالي، وكل ما هو ضعيف كثير ورخيص، ولأن الناس دائمو الاستسهال في ممارسة الحياة، فقد ازدهر الضعف والرخص، وصارا قاعدة ومنهج حياة للكثيرين، والثقافة والإبداع كجزء من الحياة هما أيضا جزء من هذه اللعبة الإعلامية، مهما اختلفت طبيعتهما، لكن الحقيقيين من الناس ـ وهم كُثر ـ لا ينخدعون، قد يصيبهم الصمت بسبب القوة الهائلة للميديا، لكنهم لا ينخدعون أبدا، دعينا نضع خطا واضحا تحت جملتكِ الرائعة (مع الوضع في الاعتبار أن الشهرة ليست دليلا بالضرورة على موهبة الكاتب)، ودعيني أضيف أن الشهرة نسبية لأسباب كثيرة، وأنها لا توجد من الأساس في الوسط الثقافي والإبداعي، كلنا كمبدعين مصريين وعرب نعرف بعضنا جيدا، ونتابع بعضنا جيدا، ولم يخرج من هذا السياق إلى سياق “الشهرة الشعبية” سوى نجيب محفوظ، بسبب حصوله على جائزة نوبل، لذلك على المبدع الذي يحلم بالشهرة أن يحلم أولا بالحصول على شيء حقيقي، وعالمي.      

ما رأيك في الكتابة بالعامية، خاصة في ظل تراجع الثقافة الحقيقية، وليست الثقافة المستمدة من “جوجل” والميديا، إضافة إلى الدراية المحدودة باللغة العربية الفصيحة، والرغبة في الاستسهال؟

يمتلك الأدب المصري تحديدا تجربته القديمة في الكتابة السردية باللهجة العامية، منذ رواية “قنطرة الذي كفر” لمصطفى مشرفة، التي كتبها في الأربعينيات من القرن العشرين عن ثورة 1919م وظهرت طبعتها الأولى في الستينيات، وقد عدها الكثيرون تجربة رائدة في الكتابة الروائية، ليس لأنها كُتبت باللهجة العامية فقط، بل لأنها أيضا من أوائل الروايات التي استخدمت ما سماه النقد الحديث من بعد بتيار الوعي، وأيضا لقدرتها على رصد دراما حركة التيار الشعبي في مساندة سعد زغلول والثورة، الرواية إذن ليست مسألة لغة فقط، بل تقنيات وعناصر فنية، وقدرة على طرح رؤية مختلفة بأساليب مغايرة، اللهجة العامية التي أنتجت شعرا مبهرا تستطيع أن تُنتج سردا مبهرا أيضا، فلماذا إذن لم تستمر التجربة إلا على استحياء؟! أعتقد لأن الذين خاضوا التجربة ـ من بعد ـ لم يكونوا على نفس المستوى من الجدية والقيمة، لنقل إنهم خاضوها من أجل التقليد، أو التجريب، لكنهم لو يصلوا إلى ذات القيمة، وخافوا أن يضلوا الطريق فتراجعوا سريعا، وكاد الأمر أن يُنسى.

غير أن التجربة الآن مختلفة، يقودها الاستسهال، وتُشعل جذوتها تفاهة وسطحية وسائل الميديا وسوق النشر، الرواية ليست لغة فقط، وهو ما لا يُدركه غالبية الكُتاب إلا قليلا.     

هل تشعر بالرضا عما حققته حتى الآن، أم أن الشعور بعدم الإنصاف يراودك؟

الرضا الإبداعي أمر صعب المنال، وقد يعني التوقف، أو انطفاء جذوة الإبداع في نفس الميدع، المبدع الحقيقي يبغي التحليق دائما، والفضاء بلا نهاية يمكن الوصول إليها، أما إذا كنتِ تقصدين الرضا عن الوجود، أو المكانة، أو الشهرة، أو المال، فأعتقد أن القيمة أهم بكثير، وهي وحدها ما يجب علينا جميعا أن نحاول الحصول عليه لنشعر بالرضا الحقيقي عن أنفسنا.

هل تعتبر نفسك محسوبا على أيديولوجيا ما؟

الأيديولوجيا أيا كانت هي بداية المعرفة بالنسبة للمثقف، كلما سار في الطريق وجب عليه تجاوزها، وبالنسبة للمبدع أعتبرها مرحلة مراهقته الفكرية، التي يجب أن تسقط عنه كلما توغل في الإبداع، الإبداع طاقة تخيلية هائلة لا تستطيع وجه نظر واحدة أن تستوعبها، لذلك فالإبداع دائما ضد فكرة الاحتواء أو النمطية، الإبداع حرية مطلقة بلا حدود، وأعتقد أن الثقافة الآن كمفهوم واسع قد أسقطت الأيديولوجيا لصالح المعرفة، وأنا أريد دائما أن أعرف أكثر، ولا سبيل أمامي إلا تتبع الأثر الذي تسير عليه روحي.      

ما هو عملك القادم، وإلى أي جمهور أو فئة عمرية تتوجه به؟

أنتظر قريبا جدا صدور كتابين جديدين، الأول مجموعة قصصية عنوانها “نوافذ الضوء”، والثاني كتابة أدبية عن الأماكن التي أثرت فيّ، وفي كتابتي، وشكلتْ رؤيتي الفنية للمكان في السرد، عنوانه “غواية المكان.. التفاصيل الصغيرة لمدن الملائكة”، كما أنني أكتب رواية جديدة عنوانها “منديل سعاد حسني” لم أنتهي منها بعد.

أعلم أنك تعشق كرة القدم وبالتحديد فريق الأهلي.. هل ترى أن الكاتب كما لاعب الكرة يجب عليه الاعتزال في وقت ما؟

بكل تأكيد لا، فالكاتب ليس سلعة يُصيبها القِدم، وتنتهي بانتهاء عمرها الافتراضي، الكاتب وجود حر ينبض دوما بالحياة، بل هو الذي يُعطي الحياة معناها، وقيمتها، وبهجة وجودها، ويبقى من بعدها، أليس كل ما بقي حيّا من الحضارات القديمة هو إبداعها؟! دعينا إذن نتخيل وجود حياة بلا إبداع، كيف يمكن أن تكون؟! لا شيء بكل تأكيد، على الأقل ستكون حياة بدائية أشبه بالغابة، وستنتهي سريعا، ورغم ذلك هناك بعض الكتاب الذين يتوقفون عن الكتابة لأسباب تخصهم، ربما لإنطفاء الإبداع داخلهم، ربما لأن الإبداع لم يكن همّا حقيقيا في حياتهم، وربما لأنهم يأسوا أو أحبطوا بسبب ظروف الحياة، وقسوتها.    

لخصت الكاتبة الأمريكية إليزابيث جلبرت الحياة في ثلاثة أمور: الطعام، والصلاة، والحب. هل توصلت إلى تلخيص ما للحياة؟

أعتقد إنه الإبداع، فهو يشمل كل ذلك بعمق أكبر.

الإنسان وخاصة الفنان، لا يتوقف عن الأحلام وإن حاول إظهار عكس ذلك.. ما الحلم الذي لا تتوقف عنه، أو لا يتوقف عن مطاردتك؟

حقيقة، أحلم بالوصول إلى تلك النقطة اللانهائية في الفضاء، التي يلهث الإبداع خلفها، أحلم بكتابة القيمة التي تقدر على البقاء من بعدي، أحلم أن أظل أكتب حتى النهاية.

أرشيف مقالات الكاتبة (هناء نور )

محمد صالح البحر : الحقد طاقة غير خلاقة والشهرة ليست هدفاً رئيسياً إعداد وتقديم: هناء نور #اسأل_ابن_كارك  محمد صالح البحر، حامل حقيبة الرسول، والشاهد على موت وردة، وقسوة الآلهة، لا يرى الأديب منفصلا أو مختلفا عن الأديب بداخله، وفي هذا الحوار حاولت الاقتراب "نصف مسافة" من عالم البحر.. بداية: كيف تحب أن تعرف ذاتك؟ على المستوى الإنساني هناك جانبان للذات يتم تعريفها بهما، التعريف الاسمي، والتعريف الإنساني، وغالبا لا يكون للإنسان دخل في اختيار هذين التعريفين، بل يجد نفسه محبا لأن يكون اسمه هكذا، وصورته في عيون الآخرين وأذهانهم هكذا، دون أن يكون لديه مبرر أو تفسير منطقي لذلك، والحقيقة…
تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي هالة نهرا قُبيل أحداث غزّة التي شغلت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *