الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / مغامرة التجديد في “ابن السماء” للروائي مصطفى لغتيري

مغامرة التجديد في “ابن السماء” للروائي مصطفى لغتيري

مغامرة التجديد في “ابن السماء” للروائي مصطفى لغتيري

الكاتب عبد الواحد بنعضرا/ المغرب
الكاتب عبد الواحد بنعضرا/ المغرب

عن دار محاكاة والنايا بسورية صدرت عام 2011 رواية ابن السماء للروائي والقاص المغربي مصطفى لغتيري. وتعد هذه الرواية مغامرة جديدة في أسلوب الكتابة، إذ تقوم على تكسير أفق انتظار القارئ في مرات عديدة، حيث يتدخل الكاتب ليشرك القارئ معه في بناء الرواية، وهذا ما يطلق عليه ميتارواية، فنجد المؤلف يقول:”وهكذا أجدني مرة أخرى في حيص بيص، كيف يمكنني التعامل مع هذا الوضع الطارئ؟ كنت قد قررت مسبقا أن رجال المركب سيكونون حلا مناسبا (…) تصوروا معي لو أن البحارة رموا الرجل في عرض البحر” (ص. 13)، ويقول في مكان آخر: “هانحن على الشاطئ. ونفترض أن هذا الشاطئ فارغ من البشر، بل وبعيد عن أية قرية أو مدنية. إنه شاطئ ناء لا يخطر به بشر. وهنا سنكون أمام افتراض أننا سنعيد قصة حي بن يقظان (…) لذا سأحاول التفكير بشكل مختلف، وسأهيئ لهذا البطل… ظروفا مناسبة لينخرط في حياة الناس” (ص. 16)، وفي موضع آخر يقول: “هنا سيفطن القارئ أنني التجأت إلى قصة “النبي” القديمة التي وردت في الكتب السماوية. لعل ذلك ينقذني من الورطة التي وضعت نفسي فيها، بجعلي البطل في مكان منقطع عن الناس. لاعلينا. ثم ما المانع من ذلك، ألم يصبح التناص أمرا مشاعا ومعترفا به…” (ص. 18 – 19). فهذا الأسلوب يعتمد على إشراك المؤلف للقارئ في تقنية الكتابة، مثلما مرّ معنا في المقطع السابق عند الحديث عن التناص. بيد ان هذه الطريقة في الكتابة تحتاج إلى دربة ومراس حتى لا تظهر متكلفة أو مصطنعة.

غلاف رواية ابن السماء لمصطفى لغتيري
غلاف رواية ابن السماء لمصطفى لغتيري

يمكن تقسيم الرواية إلى قسمين كبيرين:

ــ قسم أول: أعتبرُه قسما أنطولوجيا وجوديا، يتجلى في اسم البطل: ابن السماء، هذا الكائن النحس، كما أطلق عليه المؤلف، نحس لأنه كلما هيأ له ظروفا لتسهيل اندماجه في حياته الجديدة، يأتي بأفعال تعقد مهمته؛ إذ يبتدئ المؤلف روايته موضحا: “حقيقة أتعبتني هذه الرواية، وحين أقول ذلك، لا أعني المعنى الرائج للتعب، الذي قد يعبر به المرء ــ بشكل مبالغ فيه ــ عن تبرم يحسه نحو عمل ما. بل أقصد أنها أنهكتني، فما يزيد عن عشر سنوات، وأنا أحاول كتابتها، لكنها أبدا لا تستقيم بين يدي، في كل مرة أجد نفسي عاجزا لا أتقدم في العمل خطوة واحدة. والسبب في ذلك أن هذا البطل الذي اخترته لروايتي لا يطاوعني في شيء، إنه دائم التمرد. أكدّ الذهن وأضعه في مكان مناسب، يمنحه القدرة والقوة على التقدم خطوات إلى الأمام، بيد أنني ما إن أكتب صفحة أو صفحتين، حتى أجدني غير قادر على كتابة جملة إضافية. إنه بطل نحس” (ص. 5).

هذا الكائن في أصله لا ماضي له، وضعه المؤلف في البحر، ثم أشرك القارئ في اختيار أصله، ليختار السماء، إنه أصلا كائن ميت تلبست روحه بجسد آخر، كان مزعجا لأهل السماء، منفر مقيتا سيستقر الرأي على طرده من السماء، وهنا ستبدأ معاناة البطل. ليستقر به الحال أخيرا في قرية في كنف أسرة مهمشة وسمعة ملطخة بعار الأم ذات الماضي الذي يعرفه كل أهالي القرية، تتكون من أب عجوز وفتاتين يافعتين جميلتين متعطشتين لكل شيء للقوة، للشبق الجنسي، للسلطة… وهو بقوته الجسدية، وتخلفه الذهني، وهيامه أحيانا في تأملاته، ستجد فيه الفتاتان ضالتهما. هذا الجزء فضلا عما سبق ذكره عن تقنيات الكتابة، استثمر فيه الكاتب القصص والأساطير المعروفة، ليطرح ضمنيا أسئلة عديدة على بعض المعتقدات الدينية، تلميحا وليس تصريحا خاصة أننا بصدد عمل فني.

ــ قسم ثاني: يمكن أن أسميه قسم تاريخي إلى حد ما، فهو يتناول تطور هذه الأسرة التي احتضنت البطل، خلال حقبة الاستعمار الفرنسي للمغرب، ويتميز هذا القسم بضمور وخفوت دور البطل، الذي توارى إلى الخلف، ولعل الاسم الذي صار يحمله خير معبر عن ذلك، إذ ارتقى لدرجة ولي وأطلق عليه اسم “سيدي الساكت”، والمفارقة أن ارتقاء البطل إلى ولي سيوازيه اختفاؤه عن مسرح الأحداث. في هذا القسم سلط المؤلف الضوء على الدور الذي تلعبه النساء في سير الأحداث، من مناورات، وإطلاق الشائعات، والتجسس على أخبار زوار زاوية سيدي الساكت؛ بحيث يظهر المؤلف أن كثيرا من الأحداث الجسام تنسج شبكة خيوطها المرأة.

المفارقة الأخرى في هذا القسم، أن ادعاء الوَلاية، والنقاء، والزهد، واكبه كل التصرفات التي تناقض “قدسية” الولاية، خمر، زنا، رشاوي، غنى وثراء فاحش، تحكم في كل أفراد القرية، تعامل مع الضباط الفرنسيين (أحدهم سيكون عشيقا للؤلؤة زوجة الولي، وسيصبح منهمكا في ممارسة الجنس معها بشكل منتظم، وبطقوس خاصة في بيت الأسرة)، أخت زوجة “الولي”، سلمى ستدير شبكة كبيرة للدعارة، وستعمل على إبعاد زوجها إلى حيث لا يرجع، إلى أحد البلدان الأسيوية للمشاركة في الحرب، للتخلص منه، سيعود لا حقا ولكن معاقا، وستطرده المرأتان، حتى وجد ميتا في أحد الأماكن.

عرفت أطوار الرواية موت الولي، ولكن هذا الأمر بالنسبة للمرأتين خدمهما، إذ ازدادت قدسية الولي، وازداد غناهما.

ستعرف النهاية، تحولا لدى أحد أفراد الأسرة، وهو ابن لؤلؤة ــ وابن الولي سيدي الساكت ــ الذي عاد من الدراسة في فرنسا، وسينضم للحركة الوطنية، وهذه مفارقة أخرى في هذا القسم، فضلا عن أن الرجل درس العلم، وهو ينتمي لأسرة تسترزق من نشر الخرافة، ستختتم الرواية بالفقرة التالية: “مشى في طريقه لا يدري أين تقوده قدماه، وهو يفكر في وضع أسرته في القرية، الذي أشعره بالخجل، ثم في وضع البلد الذي يخضع لتجبر فرنسا العظيمة، التي تقدس الحرية في بلادها وتدوس عليها في بلاد الآخرين. كان قرار ما ينبت في أعماقه تدريجيا، ثم ما لبث أن تعملق حتى أصبح راسخا لا يمكن زعزعته. سيغادر البلدة حالا، ويلتحق، بكوكبة من الوطنيين الأحرار الذين يناضلون من أجل طرد فرنسا من البلد. فيما هو يمضي حثيثا نحو وجهته، انتصبت عبارة قوية وراسخة في ذهنه: لقد آن الأوان ليتغير كل شيء”.

خلافا للقسم الأول، جاء هذا القسم متخففا من الحمولة الانطولوجية للقسم الأول، مليئا بالأحداث، وهذا ما يدفعني للتساؤل: إلم نكن أمام روايتين، في الحقيقة؟ إذ تختلف بنية القسمين في كل شيء. وعلى العموم فهناك تحول كبير في أسلوب الأستاذ لغتيري، مقارنة بأعماله السابقة، إذ خرج المؤلف مما يمكن أن نسميه رواية/قصة طويلة، إلى رواية فيها تعقيدات أكبر للشخصيات، وتعقد أكبر لنفسية هذه الشخصيات. مع حرصه على تجنب تفاصيل التفاصيل التي تميز الكتابات المشرقية.

 

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *