الرئيسية / مجتمع / هناء نور تكتب : عالم متنمر بطبعه

هناء نور تكتب : عالم متنمر بطبعه

الكاتبة المصرية هناء نور

هناء نور تكتب : عالم متنمر بطبعه!

الكاتبة هناء نور / مصر

التنمر ليس فكرة شرقية أو غربية الأصل بل هو عادة بشرية.. وأظن أننا تربينا على التنمر منذ الطفولة.. وأول أشكاله:

 التنمر الشكلي
  أتذكر في طفولتي لقب زيتونة أو فحماية يوصف به أصحاب البشرة الداكنة.. ودبدوبة التخينة للبنت البدينة.. والكارتة لصاحبة الشعر المجعد.. والمسلوعة للبنت النحيفة.. وتزداد السخرية عنفا حين تكون الضحية بنتا.. لكن الولد لا ينجو طبعا.. ولا أظن أن أحدا ينجو من التنمر
الكبار يتفننون في إطلاق الألفاظ العنصرية على المختلفين شكلا.. والأطفال كما الببغاء يرددون ما يقوله الكبار..
 كنا نشعر بالانتشاء والفخر ونحن نسخر ممن نظنهم محل سخرية.. أي أننا ساديون أيضا بدرجات متفاوتة وحسب ما تربينا عليه.. كلنا مجرمون وضحايا في الوقت نفسه..

كانت تبكيني في صغري سخرية زميلات المدرسة من أنفي.. لا أعرف كم عدد المرات التي نظرت فيها في المرآة وأنا أتساءل وأحاول إقناع نفسي في الوقت ذاته بأن “مناخيري”  لا بأس بها ولا تستحق ضحك الأطفال إلى حد القهقهة.. كنت أضع مشبكا يضيق نفسي لتصبح أنفي صغيرة.. بعدما انعدمت ثقتي بذاتي وأصبحت أكره النظر في المرآة.. هذا لا يمنع من أنني سخرت وضحكت ممن لم تعجبني أشكالهم أيضا..

عندما كبرت وقرأت كتبا تصور أمريكا والإنجليز كمصانع للعنصرية.. كنت أتذكر كل ما رأته عيني من صور للعنصرية، فأردد في نفسي “بس كلنا عنصريبن والله”

التنمر الذاتي

 كانت لي زميلة في الثانوية ينطبق عليها المثل القائل “وحشة وعاجبة نفسي وأشوف الناس تقرف نفسي”
عرفت منها هذا المثل.. ولم يكن ينجو أحد من تنمرها.. لكنها كانت بارعة بالأكثر في التنمر ضد ذاتها والسخرية من طباعها وملامحها بدرجة تضحك من حولها إلى حد البكاء..

التنمر الإعلامي
منذ سنوات شاهدت أوبرا وينفري تسخر من البدانة من خلال نفسها فتقول “أصبحت مثل البقرة الحلوب” جمهور أوبرا وينفري ضحك كثيرا.. رغم انتشار البدانة بين الجمهور وفي أمريكا عموما..

في مصر قامت الدنيا ولم تقعد حين تحدثت إعلامية لامعة ضد البدانة.. ورغم أن المذيعة نفسها كانت تعاني السمنة المفرطة في مرحلة ما.. ولم تنكر ذلك.. لكن افتقاد لهجتها للذوق ولروح الدعابة الموجودة لدى وينفري؛ جعلت المجتمع المصري ينقلب عليها إلى حد التضامن مع فكرة البدانة من خلال رسومات أبدعها رسامون مصريون لإبراز جماليات البدانة!
فهل السمنة جميلة حقا.. أم أن المسألة كانت محاولة للقضاء على مستقبل مذيعة جهلت التفريق بين النقد والتنمر، فتنمر عليها المجتمع بأغلبية ساحقة أفقدتها وظيفتها!..

النحافة لا تنجو أيضا من فخ التنمر.. تثار حول إطلالات أمل كلوني سخرية عالمية، وعربية بشكل أكبر من نحافة أمل.. تملأ صورها السوشيال ميديا ويتساءل العرب كيف تزوج النجم الوسيم الثري كلوني من امرأة بلا أفخاذ؟!

زوجة ماكرون أيضا تكشف إطلالاتها حجم التنمر الكامن في النفوس فنجد سخرية مزدوجة من نحافتها الشديدة وسنها معا ويتساءل هؤلاء كيف يتزوج رئيس فرنسا من امرأة تكبره بفارق كبير في العمر ونحيلة كما “العصاية”!

صرحت الأميرة ديانا في إحدى حواراتها بأنها تكره طولها الزائد وتخجل منه أحيانا.. ولعل التنمر ضد طول القامة أقل حدة وانتشارا، فلا أتذكر غير المثل القائل على سبيل السخرية  “الطول لعود الخشب والقصر لسبيكة الذهب”.. بينما يسرف الناس في التنمر ضد قصر القامة.. فنسمع أمثالا كالطول هيبة والقصر خيبة.. الطول طول عز والقصر حبة رز.. الطويلة تقضي حاجتها والقصيرة تنده جارتها..  كما يربط البعض بين قصر القامة وخبث الشخص!

التنمر الفني

الأمثلة كثيرة.. ويعد إسماعيل ياسين من أكثر الذين استخدموا السخرية بملامحهم ومن ملامحهم.. لأغراض كوميدية.. أغنية “الغراب يا وقعة سودة” للسخرية من ملامح الريحاني تم توظيفها بشكل فني يضمن تسلية الجمهور وإضحاكه.. لا أنسى أيضا مشهد السخرية  من تحية كاريوكا في فيلم “خلي بالك من زوزو” وكان وسيظل هذا المشهد دليلا على أن التنمر ليس جديدا على مجتمعنا.. وأنه لا يوجد زمن جميل كما يقال، ولكل زمن جماله وقبحه.

التنمر الطبقي

مسألة عالمية منتشرة في المجتمعات الرأسمالية التي تتسم بفوارق كبيرة بين طبقتين لا ثالث لهما.. فالطبقة الثرية تنظر بتعال وفوقية للطبقة التي تعتقد أنها أقل؛ حتى لو كانت لا تمتلك ثقافة الطبقة الأدنى  ماديا.. في المقابل تمتلئ نفوس الكثيرين من أبناء الطبقة الفقيرة بأحقاد وكراهية للطبقة التي تستطيع شراء كل شيء، فلا يصبح للإنسان قيمة تذكر ما لم يمتلك البنكنوت الأخضر.. تقوم السوشيال ميديا بدور كبير في إظهار التنمر المتبادل بين الطبقتين.. والمتفشي في الطبقة الأدنى ماديا بالأكثر؛ إذ إنه ليس غريبا انتشار الأحقاد في المجتمعات غير العادلة؛ التي يعيش فقراؤها في موقع المتفرج على الحياة من بعيد..

يشمل التنمر الطبقي المهن أيضا.. والتربية تساهم بشكل أكبر في هذه المسألة، فقائد الطائرة، والسفينة، والقطار سائق، لكننا نتفنن في التفرقة العنصرية بألقاب، كابتن، وقبطان، وسائق، هكذا أيضا مضيفة الطيران تختلف فيما تربينا عليه عن جرسونة المطعم.. رغم أنهما تقدمان في النهاية طعام..

واختلفت مؤخرا بعض التسميات التي تربينا عليها، فأصبح الطباخ الشيف فلان.. والخياطة مصممة أزياء.. والمزين “ميك أب آرتيست” وباختلاف التسميات أصبحوا نجوم مجتمع.. وانتموا للطبقة التي تسمى “الراقية” فلم يعد الرقي سلوكا أولا؛ بل  أصبحت الحكاية ملخصة في المال والشهرة.. “ومعاك كام تسوى كام”!

التنمر القانوني  تتعامل اليابان مع البدانة باعتبارها جريمة يعاقب عليها القانون.. وربما تخشى اليابان على صحة مواطنيها.. لكن هذا لا يمنع من تطفلها بالقانون على أطباقهم وكميات الطعام التي تدخل بطونهم..  

يظهر التنمر القانوني  أيضا في منع الصين وتجريمها لزراعة زهرة الياسمين؛ فبعد حدوث ثورة الياسمين في تونس والتي حاول بعض النشطاء الصينيين القيام بثورة مماثلة لها تحت نفس الاسم، لم تكتف الصين بإحباط محاولة تلك الثورة واعتقال نشطائها ومنع زراعة تلك الزهرة؛ بل أمرت بمنع ذكر سيرة الياسمين على أي لسان في تطرف غير مسبوق!

التنمر العقائدي

يعتبر من أخطر أشكال التنمر.. فالأهل يغرسون في نفوس أبنائهم منذ الطفولة أن عقيدتهم أفضل وأعلى شأنا من العقائد الأخرى فيكبر أكثرنا على عدم قبول أصحاب العقائد الأخرى أو التعامل معهم بفوقية مستمدة من ثقة بالأفضلية عند السلطة الإلهية العليا، وأظن أن الهند تشكل نموذجا طيبا في القدرة على التعايش دون تنمر شائع رغم تعدد العقائد. وشاروخان من أشهر نجوم بوليوود مسلم متزوج من هندوسية ويترك لأبنائه حرية الانفتاح على كل الديانات واحترامها.. والإيمان بوجود الله أولا وأخيرا..

التنمر ضد الكائنات

لم يكتف الإنسان بالتنمر ضد أخيه الإنسان.. بل وضع قواعده العنصرية للتمييز بين الكائنات الأخرى.. في الأمثال الشعبية نسمع “سبع ولا ضبع” لإثبات فوقية كائن على آخر.. ورغم شهرة الكلاب بالوفاء تقول الأمثال متنمرة ومتجنية: “زي الكلب يعض الإيد اللي اتمدت له” فما ذنب الكلاب في غدر بني البشر!

وفي النباتات أيضا يتضح التمييز بوضوح في “خيار ولا فقوس” للرفع من شأن الخيار على حساب القثاء!

ولا تنتهي الأمثلة على التنمر.. فهل ثمة أمل في انتهاء التنمر؟!

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي هالة نهرا قُبيل أحداث غزّة التي شغلت …

تعليق واحد

  1. غاية اللروعة والجمال

اترك رداً على خالد لحمدي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *