الرئيسية / ثقافة / قصة ورواية / الصخرة والجلمود ..الكاتب المرحوم / عبدالسلام عمر سوف

الصخرة والجلمود ..الكاتب المرحوم / عبدالسلام عمر سوف

الصخرة والجلمود

الكاتب عبدالسلام عمر سوف 1955 ــــ 2013
الكاتب عبدالسلام عمر سوف
1955 ــــ 2013

الكاتب المرحوم / عبدالسلام عمر سوف/ليبيا

تجهمّ وجه الأفق بغيوم أسفت ملتحفة ببرانيس  كأشباح مذعورة  ..شعّت كبد  السماء  بدفق من النور الوهاّج 

تحرّكت نتف الزنك .. تنوّست أغصان التيّن والزيتون  .. زخاّت مطر بدأت خفيفة بنقرها المتتالي  على أسطــح الأكواخ .. ثم .. كأن السّمــاء صهريجا مثقوبــا إنفلق ماؤه ..

تكوّنت بـِرَك.. تجدولت.. و تسيّلت بخرير ٍ إزداد بغزارة الهطول ..تضوّعت  الأرض بعبق ثراها  وبفيض زخم الحياة .

بكلتي يديه  ضمّ جـِوال الخيش إلى صدره.. سحبه إلي  مقدّم  جبينه.. وقف كطود راسخ أمام باب الكوخ الخشبي  المتقاطر .. نحيل.. طويل القامة.. نموذج حقيقي للعائلة.. للوهلة لم استرع انتباهه لأن كلّ ما بالمشهد.. أبهره وأخذ بلبّه .. نظر نحوي بعينين تفيضان فرحا  .. قال :

– سبحان المولى ..وقت هطول المطر.. تنتابني قشعريرة ..تتنمّل أطرافي..  تهتزّ رقبتي.. وتصطك أسناني..ممتعة.. وفتها قصير  كم أتمناها أن تطول؟

رفع رأسه.. هه …. : ستهطل مرّة أخرى.. وبرشاقته المعتادة.. تقـــــــــافز باتجاه  ( زريبة  الماعز ) تنغرز قدماه  بحفر سرعان ما تمتلئ  بالمياه .. إنحني …وبدأ يصلح نتف الزِّنك المشبّكة.. تغزّر المطر إستدار ..ركض مسرعا .. زلّت  قدمه.. إنزلق … تمدّد علي ظهره  بوسط البركة.. ناثرا المياه في كلّ الاتجاهات .. تقرفص.. تسيل منه المياه مختلطة بالوحل .. ضحك .. تلته.. قهقهاتنا بعد الصمت المقلق  .. على اللّغط .. خرجت والدتي!!

ما الذي  تفعله  يا رجل  ؟  ستصاب بالبرد والحمى !!

أهكذا تعذبّنا كل شتاء ؟ !.. اقتربت لمساعدته !!

– مكانك  يا ولد !..

حاول الدخول بقدميه الموحلتين  .. إعترضته والدتي .. أتته بجلابيّة.. وجردل مياه.. دافئة.. خلع ملابسه إلاّ ما ستر ..بدأنا  بغسل أطرافه .. دلكّنا ظهره .. طوال الوقت.. منتشياً يلقي بأشعار ( قنانة ) :

الأيام كيف الريّح في الدرجاحـــة              مرة شقا الخاطــــــــــــر ومرة راحـه.

يردحـــــــــــن ويميــــــــــــــــــلن              ويديرن حوايــــــــــج. ماعليك أيخيلن

ويحطّن أحواهن عالقوي وأيشيلن              وأيجيبن العالي في الوطي مطراحه.!!!

 

بوسط سقيفة الدار تحلّقنا من حوله .. شمشم و قال :

– يا ابنة العم.. لا أحتمل رائحة الفيجل ..

–  مليحة.. تمنع الرعد !..

صحفة ( الدشيشة ) بخارها يتصاعد للسقف .. ورائحتها الشهيّة تزكم الأنوف .

ملأ  كفـّه طعام.. ناتئة منه  بعضاً من قريض القدّيد .. لسعته السخونة ..  تأوّه .. نفخ .. حذونا حذوه .

أتذكّره  بالحقل المغمور بالشمّس .. كساق خيزران…وكأنما  جُبل من هذا العجين .. ينظر بطرف عينه لكل ما أفعله .. نقاط عرق.. تلتمع علي جبينه .. تسيل وتلتقي أسفل ذقنه  …نحفر ..نزرع .. تجف الأرض.. تتحول ما يشبه القرميد المتشقق .

 وفي يوم وجدته مربد ّا ً.. معفـّرا ً .. أجال النظر إلى الصُّّفرة التي تعلو النباتات والأشجار .. المطأطأة  أوراقها .. بفعل الحرّ والشّمس… إلى الأرض البرصاء.

– بأذن الله… سأحفر بئراً عميقة.. واسعة.. ثبّت رداءاً قديما ً بما يشبه الخيمة.. ومن صندوق عتاد… أخرج أزميلين .. أقصر أخف .. أطول أثقل .. ومطرقة .. تقرفص متظلّلاً الهجير وسط ضباب الحر .. مجّ الأرض  بريقه ..  ثم سلمّني فأساً ..

– أحفر وأنبش.

 لم يكن من السهل.. أعرف صلادة الصّخور بالحقل…. غمز بحاجبه.. وذهب لا يلوي على شيء.. ضربة قويّة فوق رأس الأزميل القصير ..مال وأرتدّ  وتطاير منه شرر  .. ضربة ثانية أنزلق بلسعة  من بين أصابعي .. عملت بجدّ دون كلل ودون  أن أفقد الأمل .. عمل منوط لا بدّ ان أسوده و أكونه ..استعملت الأزميل الأطول والأثقل.. ضربة للجلمود.. الجاثم بوسط الحفرة  كعدو .. أرتجّ.. وطنّ  كدبوّر وجل  .. كرّرت المحاولة و بكل جوانب الجلمود .. أبتلّت ملابسي من العرق.. أحسست بدمي يضرب رأسي .. اعترفت بالهزيمة النكراء .. وكم كانت فرحتي كبيرة عندما أعتقني ..شربت كثيرا من المياه  وقررّت النوم..

اليوم التاّلي سحبني من يدي .. قبض على الأزميل.. ثبتّه بجانب الجلمود .. ضربة لا  ارتجاج..ولا طنين.. ولا شرر .. تطايرت شقف حجريّة .. تحوّل الجلمود إلى كومة  مجروش .

الصّخر له عروق هي أماكن وهنه  . .

تذكرّته كيف لم يجد أيّة  صعوبة لطرد الثعالب.. الشياهم.. والأرانب التي تعيث بالحقل..وقت موسم البطّيخ.. والقاوون ..والفقّوس ..أتي بعتاد بنادق الألمان  أنتزع  الرّصاصة وأبقي علي الخرطوشة والبارود ..  ثم علقّ كل واحدة بسلك معدني وأشعل نارا في حفر  صغيرة متحلقّة  بالحقل.. وأسند كلّ خرطوشة مثبتّة بالسلك .. قريبا من الناّر وبمسافات  مختلفة…  طيلة الليّل طرقعة.. تتلوها أخري وبأوقات متباعدة وغير منتظمة !ّ!!

سألته.. يا سِيْدي ماذا تفعل عندما لا تجد عتادا ؟

أجابني يكون الموسم قد …!!!

ـ والمواسم القادمة؟

ـ الله أعلم .. هناك ألف طريقة و..!! سمعته يغمغم  … جيل متعجّل!!

مرّت أياّم    .. لم أعد أراه إلا بوقوفي  قرب حافـّة الفوهة ..تربة و أحجار ُتعْزَق  من الحفرة إلي   حوافها  ..  وطأ الخشبة الأخيرة للسلمّ ..قفز خارج الحفرة !!!

ـ أنا في الستيّن .. عندما يصل جيلك إلي هذا العمر ما..!!……….ولم يكمل كعادته … جلس  أعلي الكومة.. ساهماً..محدّقا ً إلي  الشمس الجانحة نحو الغروب  يرتشف الشاّي !!

 نظرت إلي الحقل.. النبّات.. كومة التراب.. والحفرة الغير متناسقة.. كتمت ضحكتي  إلتفت نحوي وكأنني قطعت عليه حلمه… نظر إليّ ملياّ .!!

ـ ماالذي يضحكك ؟ لم أرد !!

ـ أجبني يا ولد  !!

ـ حاضر ..  أحكِ لك  ِسيدِي  .. رأيت جرذا هناك.. أنت  تحفر هنا.. وهو يحفر هناك.. تخيّلته  يستعير الأزميل والمطرقة  منّا ..وقف.. حكّ مؤخر رأسه

ـ وما الفرق؟.. إنها الحياة.. وأكيد لديه أيضا  “سُحْـل” مزعج مثلك .. كثير السؤال..!!

رجعت لمساعدته بالحبل والجردل .. وفي يوم علـّق بكرة ..بجانب فوهة  الحفرة كم ارتحت لكريرها  وصريرها مع احتكاك  الحبل… أيّام ثم  مللت..عَلَََت  الكومة..إتسّعت الحفرة وتحوّلت إلي  بئر ٍعميقة ٍ مظلمة..أسمع صدي صوته يرتدّ عن جنباتها .. يلقي  بأشعار” قنانة .

……………………………………………..

1) قنانــة  :   شاعر معروف بحكمته ضريحه بـ (زيغن) جنوب ليبيا .
2) الدشيشة  : أكلة ليبية.. ادام ..بمجروش الشعير.. أو القمح
3) الشيهـم  :  ” أبو شوك” يدافع عن نفسه برمح  أشواكه وهو حيوان ليلي.يتغذي علي جذور النباتات والفواكه.
4) “ياسيدي ” : لهجة ليبية   كناية عن.. “يا أبي”..ولا زالت بعض العائلات الليبية تتداولها .
5) سحل  : صغير الأرنب والجرذ .

 

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

هناء نور : تكتب “علبة حليب” قصة قصيرة

هناء نور تكتب : “علبة حليب” قصة قصيرة يؤلمني جدا حين يعتصر ثديي في كفه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *