أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي
هالة نهرا
قُبيل أحداث غزّة التي شغلت العالم بأسره وآلمَتْنا كثيراً، مثّلَ حضور الشاعر والمفكّر أدونيس في مقتبل تشرين الأوّل (2023) في لبنان، قيمةً ثقافية وفكرية لافتة وجاذبة بتحرّرها وعمقها وجسارتها وصراحتها، التفّتْ حولها كوكبة من المثقفين والمبدعين والشباب والنخب الوازنة.
تجلّى أدونيس في حواريته المفتوحة مع المحلّلة النفسية حورية عبد الواحد حول إشكالية الإبداع في المجتمعات العربية بإدارة الإعلامي والشاعر زاهي وهبي، ضمن مؤتمر أقامه “المركز اللبناني للعلوم النفسية والاجتماعية- نفسانيون”، في متحف “نابو” في الأوّل من تشرين الأوّل. كما تكلّل حضوره في بيروت في الخامس من تشرين الأوّل في “ملتقى خيرات الزين الأدبي” (قريطم) بالتميّز، وقد حاوره ببراعة الشاعر والكاتب محمد ناصر الدين وأدار الجلسة محمود وهبة، علماً أنّ الحوار تمحور حول الشعر وما يجاوره. ليس من قبيل المبالغة القول راهناً إنّ أدونيس هو المفكّر العربي الأبرز الذي يعبّر عن قناعاته بشفافية تامّة وتبحُّرٍ معرفيّ. إذا اختلف المرء مع أدونيس في رأيٍ أو مسألةٍ ما أو أخرى أو تناغم معه فلا يمكنه إلا أن يحترم عقله الطليعي. حول إشكالية الإبداع في المجتمعات العربية قال أدونيس الكثير في “نابو” وتخطّى حدود الموضوع من فرط سِعَته ليطرح أيضاً بالتوازي إشكالية العالم العربي برمّته تاريخياً، وسياسياً، واجتماعياً، وثقافياً.
عن أبرز المعوّقات أمام الإبداع العربي أشار أدونيس إلى أنّه لا يوجد في تراثنا العربي كلّه كتابٌ واحد يمكن أن نسمّيه كتاباً حرّاً بمعنى أنه كُتب بحرية كاملة ويُقرأ أيضاً بحرّية كاملة. لا يقصد بالقراءة مهمّة الاطّلاع فحسب، بل أيضاً ما تشتمل عليه من حرّية نقدٍ وتأويلٍ وتفكير. وأردف قائلاً إنّ الذين حاولوا أن يكتبوا هذا الكتاب الحرّ قُتلوا أو أُحرقت كُتُبهم، وبالتالي فإنّ المعوّقات أمام الإبداع وفقاً لأدونيس هي ذاتية وموضوعية معاً.
صاحب “الثابت والمتحوّل” قال إنّ المجتمع اللبناني عبارة عن “تجمّعات لبنانية، الصلة بينها نظامٌ قائم على سلطة مغتصَبة فهي ليست نابعة من إرادة الشعب، وعدَّ لبنان صورةً مصغّرة عن وضع الدول العربية الأخرى معتبراً أننا “إذا وضعْنا العرب على الطاولة الآن أمامنا ودرسْنا التحوّلات في المجتمع الذي نسمّيه مجتمعاً عربياً وقارنّاه بمجتمعاتٍ أخرى، سنعرف أنه خلال 100 سنة تمّت الانقلابات الكبرى في جميع الميادين وفي العالم كلّه، وأنّ العالم انتقل من سيّءٍ إلى أقل سوءاً أو من حسنٍ إلى أحسن إلاّ العرب الذين بدأوا جيداً وهم الآن في أسوأ حالاتهم. وأوضح أدونيس مفهوم المجتمع الذي لا بدّ أن يتشكّل حين يتساوى الأفراد في الحقوق والواجبات كشرط أساسي، والحقوق المدنية والحرية مرتكَزٌ، ومن دونها لا يمكن أن يكون لدينا مجتمع. بنظر أدونيس فإننا لا نزال قبائل: “لا نستطيع أن نتقدّم ما لم نطرح أسئلتنا حول السردية الثقافية السائدة عند العرب، وهي سردية خاطئة ومختلَقة ويجب إعادة النظر بها كلياً وبأنفسنا”.
ومن أبرز من قاله أدونيس – ردّاً على سؤال جواد عدرا- إننا “خرجْنا من الخلافة العثمانية، لكنّ ذلك لم يكن بإرادتنا أو بثورة خاصة قمنا بها نحن العرب ضد الأتراك، بل أخرجَنا البريطانيون والفرنسيون لا حبّاً بنا، إنما ليحلّوا محل الأتراك ويأخذوا ثرواتنا وفضاءنا الاستراتيجي ويهيمنوا علينا. وفي النقاش المستفيض ذكَرَ “أننا الآن ولايات عثمانية جديدة من المحيط إلى الخليج. ولا يوجد نظامٌ واحد حرّ وذو إرادة مستقلة، لكي تكون لديه ثقافة مستقلّة وحريات، نحن ولايات عثمانية جديدة للبريطانيين والفرنسيين، والآن للأميركيين”.
أمّا في “ملتقى خيرات الزين الأدبي”، فقال أدونيس بصيغةٍ تساؤلية – ردّاً على سؤال الشاعر محمد ناصر الدين عن ما إذا كان يمثّل الذكاء الاصطناعي خطراً وحَول مدى إمكانية الاعتراف بالرجل الآلي “الروبوت” شاعراً- : “هل كائن الذكاء الاصطناعيّ يولَد تلقائياً؟”. وتابع جازماً: “لا معنى للذكاء الاصطناعي في الشعر الذي يُعَدّ عملاً إنسانياً محضاً”. وأشار أدونيس إلى أنّ الإنسان يولد شاعراً، وأنّ الشجرة الاصطناعية لا يمكن أن تكون مثل الشجرة الطبيعية، وكذلك “الروبوت” لا يمكن أن يكون مثل الشاعر. قدّم أدونيس تحية نبيلة إلى بيروت التي تبقى بنظره ورغم كل شيء “صانعة الثقافة في العالم العربي” وهي “تحتضن مفارقات كثيرة” وعبارة عن “مشروع لا يكتمل، وتخلق هويّتها فيما تخلق مشكلاتها”.
وعن علاقة الشعر بالطفولة أكّد أنّ الشعر هو هذه الطفولة أي طفولة العالم المتواصلة والشاعر يكتب لكي يجدّد هذه الطفولة، معتبراً أيضاً أنّه “يمكنك أن تولَد أكثر من مرّة بالقراءة”.
اللافت أنّ أدونيس قال بتواضعٍ محبّب واعترافٍ يشفّ عن رفعته إنه يفضّل كتابة المرأة راهناً: “المرأة أفضل منّا بكثير: لو وضعنا الآن جيلنا نحن بدءاً من بدر شاكر السياب، مروراً بنزار قبّاني، ومحمود درويش، وأنا، و”مجلّة شعر”، وقرأنا نماذج من شعرنا عندما كنا نكتبه في شبابنا، وقارَنّا ما كتبناه بما تكتبه المرأة اليوم خصوصاً، أنا أُفضّل كتابة المرأة فهي بدأت تكتب فرادتها”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت هالة نهرا مقالها في تشرين الأوّل 2023 وأجّلت نشره حتى اليوم بسبب الأحداث الأليمة في فلسطين ومنطقتنا.
هالة نهرا: ناقدة فنية وكاتبة وشاعرة لبنانية Hala Nohra