لا طماطمَ في الجنة (قصة) للكاتب / ضياء حميو
الخبر ال واي
29 سبتمبر، 2016
ثقافة, قصة ورواية
5,513 زيارة
لا طماطمَ في الجنة (قصة)
الكاتب / ضياء حميو/ العراق
بعد موتي بعامين، وبعد أن أفاقَ صديقي من صدمةِ خسارتي؛ شَرعَ بكتابة سيرتي، ربما ليخففَ عن كاهلهِ عبءَ فقداني.
كتب ببساطة وحب، ولكن ..!
هأنذا في العالم الآخر.. وكتابه ذو الخمسمائة صفحة بين يدي.
طبعا نسيتُ أن أخبركم أني في الجنة الآن، ومأثرتي الوحيدة في الدنيا هي رعايتي للطماطم! ومَنْ أدخلتني للجنة من بعد.
صراحة لا أشعر بالراحة هنا، إذ لا يوجد طماطم.
في هذه اللحظة أشعر بالغضب من صديقي، ومن كتابه.
ملأه صورا وحكايات عنّا، وعن رحلاتنا عبر العالم للبحث عن أنواع محددة.
غاضبٌ منه للغاية، الأحمقُ نسي أو تناسى دافعي برحلة حياتنا “الطماطمية”!.
كان يدرك جيدا أني قمتُ بما قمتُ به (وأودى بحياتي في النهاية) لأجلها.. لأنها تحب الطماطم! وترقص فرحاً مع كل ثمرة جديدة لم ترها سابقاً.
هكذا كنتُ أفاجؤها، لترقص فرحاً كطفل وتضمني.
أن تضمني هو ماكنتُ أنشده.
يالضمتها! نادرون أولئك الذين آمنوا بالضمّة، ووهبوها بكلّ كلّهم لواحدٍ اختاروه حبّاً.
لطالما حلمتْ بالطماطم السوداء الصغيرة، تلك التي يسمونها “الطماطم الروسية”.
كانتْ تلح كطفلة: “هل ستجلبها لي يوما؟”.
أجيبها: “طبعا، طبعا، حتى آخر رمق بحياتي، ستُكحّلين عينيك برؤيتها”.
فتقول: “حينها سأضمك حتى آخر نفس بي”.
فيجن جنوني.. أتخيل النفس الأخير، لنسقط معاً بلا حركة.
هكذا أعددتُ العدّة وصديقي، أن نذهب إلى مدينة “سانت بطرسبورغ” في روسيا، وهدفنا: “بنك البذور”، الذي أسموه “معهد فافيلوف للصناعات النباتية”.
بحكم خبرتنا، كنّا نعرف أن لديهم أكثر من 400 نوعا. يالعناد الروس!، حتى في ذروة الجوع وحصار المدينة في الحرب العالمية الثانية، لم يقربوا حبوب البنك!.
نعرف أنهم لن يسمحوا بالسوداء، إذ يحرسونها كحراستهم لسرٍّ نووي، هكذا لا يريدون للأمريكان أن يمتلكوها، ولطالما تباهوا بامتلاكهم لها.
حدث ذلك حين أرسلوا فريقا خاصّا لغابات المكسيك قبل ثمانين عاما، وبمساعدة رجل من السكان الأصليين عثروا عليها خلف شلال “تشي هوها” النائي والساحر.
الطماطم السوداء تحتاج رطوبة خاصة، وأشعة شمس تتخلل من مياه الشلال، وهذا نادر جداً إن لم يكن مستحيلا، ولكن الشلال وشمسه وتربته وفّرت ذلك، ماقام به الروس هو أنهم، أخذوا بضعا من الثمار الناضجة والمتيبسة، وأيضا تربة، وأتلفوا كل ماتبقى ورشوا على الأرض مواد كيميائية، واختفى الرجل المكسيكي.
بعدها زرعوا البذور ببيئة خاصة في “موسكو”، فجنّ جنون الأميركيين، حين أشاع الروس بعد نهاية الحرب: “أن في الطماطم السوداء أسرار خطيرة”.
هكذا قلب الأميركيون المكسيك رأسا على عقب، وخابت كل محاولاتهم.
أقول لكم ذلك لتعرفوا مدى خطورة ما مررنا به.
على أية حال حصلنا عليها بطريقة بسيطة، لم يكن عقل الأمريكيين ليتوقعها؛ بكل بساطة عن طريق صديقنا “ديمتري”، وهو مثلنا عاشق مجنون للطماطم.
بالمناسبة… عشاق الطماطم أخوة حول العالم، نتبادل البذور والمعلومات وصور ثمارنا، واحتفالات الطماطم السنوية.
و”ديمتري” هذا يعرف منذ سنوات قصة حبي لها، وماتعنيه “السوداء” لي ولحبيبتي.
لم يقم برشوة أحد، بل بكل بساطة تطوع للعمل ببنك البذور، وبعد سنتين استطاع الحصول على بذرتين، ليقول لي: “هاك ضمّة عمرك”. وهو يحفضهما بعلبتين صغيرتين جدا بحجم ظُفر الإصبع، صنعها الروس للبذور النادرة.
هل كان يعرف ديمتري أنها ستقتلني؟!
كنّا نريد أن نغادر روسيا بسرعة وأخذنا طريقا لفنلندا وهو الأنسب لنا.
في القطار نحو “هلسنكي” وزّعنا البذرتين بيننا، بعد أن تملّكنا إحساس بمن يتبعنا!، لم نتأخر في “هلسنكي” بل قررنا أخذ الباخرة مساءً إلى السويد، وتحديدا إلى “ستوكهولم”.
قد تضحكون في سرّكم: “كل هذا من أجل حبة طماطم!”، بل بذرتي طماطم.
نعم هو الحب…
حب الطماطم لن يدركه إلا أولئك العشّاق للألوان وتجسّدها بثمار في الطبيعة، لا يوجد فنانٌ قادر على محاكاة جمال الألوان كما هي في الطبيعة! نعم مجانين ولكم أن تضحكوا، ولكن هل أخذتم حبة طماطم عادية وتأملتم بلونها، شممتم رائحتها، وضعتموها على وجناتكم لتتحسسوا رقة بشرتها!!.
لم نعرف من يتبعنا رغم إحساسنا الواثق به.
اتفقتُ مع صديقي أن نخفي بذرة في غرفتنا في الباخرة، والأخرى أحملها معي.
هكذا نزعنا مكبس كهربائي ووضعناها هناك بعلبتها، (لن يصل إليها أحد إلا إن تعطل المكبس، أو غرقت الباخرة)، حاولنا أن ننام ونسترخي بعد هذا العناء، صديقي استلقى منهكاً، أما أنا فدخلت الحمام، سمعتُ جلبةً فخرجتُ!، لم أتبين سوى صديقي ملقى على الأرض، دفعتُ أحدهم وأنا أجري متوجها للطوابق العليا ليتبعاني وتنجو البذرة الأخرى، وهذا ماحدث، حتى وصلتُ إلى قمرة الباخرة، كانا سريعين جدا، أخرجتُ العلبة من جيبي مهددا برميها في البحر، لم يهتمّا لتهديدي بل طغتْ ابتسامة النصر على وجوههم، خمّنت حينها أنهم روس، ولن يهمهم الحصول عليها، بل إتلافها، في هذه اللحظات فكرتُ بصديقي وببذرتنا المخبئة، فابتسمتُ ساخرا منهم، سخريتي هذه كانتْ غلطةً أوصلتني إلى الجنة، لأنهم بكل بساطة رموني في البحر.
لم يذكر صديقي هذه التفاصيل بكتابه، بل ادّعى أنه حصل عليها من المكسيك برحلة شاقة قام بها بعد سنة، تكريما لذكراي.
السافل… هذا يعني أنه لم يوصلها لها.
بل ما أغاضني أكثر أنه أخذ صورة لحبيبتي وهي تضع حبة من ثمارها على وجنتها.
مؤكد ظنتْ أنه هو من حقق حلمها، ولستُ أنا.
مهلا.. كيف هيّأ للبذرة أجواء خاصة لا يعرفها سوى الروس وأنا(إذ شرح لي “ديمتري” ذلك)!، هل جرّب وحالفه الحظ؟،
أم قايضها مع الأمريكان بمبلغ!؟، وهم أهدوه حبات منها كجزء من المقايضة!.
أعترف بسذاجتي، وغبائي، ها قد خسرتُ كل شيء!!
يالجنون الطماطم!!
حتى هنا مازال لدي بصيص أمل أن يسمحوا لي بزراعتها!، لكنهم يرفضون، يقولون: هي بذرة غريبة، قد تفضي بغواية أخرى كغواية التفاحة!!
بُحّ صوتي وأنا أجادلهم، بأن أسرارها الخفية كذبةٌ روسية، ليغيضوا الأمريكان بها، وماهي إلا ثمرة صغيرة، جميلة، جمالها بلونها الأسود الذي ما أن تشرق عليه الشمس يُوهم ناظره بأنه تحوّل إلى البنفسجي الغامق، هي ثمرة تحب جمالها، وتتغنج به في شروق الشمس.
على أية حال، لن أيأس، فصديقي السارق الكاذب، لن يدخل الجنة، خصوصا مع زيف ما كتبه.
أما حبيبتي فإنها ستدخلها لسببي ذاته (عشقها للطماطم)..!
في الأيام المقبلة سيحددوا لي مقابلة مع “الكبير” هنا، ليناقش سرّ حزني وعنادي، إذ أن حالتي صارتْ تحرجهم، الكلّ هنا فرحٌ ويرقص إلا أنا!، سأتوسل ل “الكبير” قائلا: “يا من جعلتها تنمو تحت شفف الشمس وشلال “تشي هوها” بقدرتك وحبك لها، إمنحني فرصة واحدة لتراها حبيبتي هنا حين تأتي”!.
وإن رفض توسلاتي، ربما سأطلب منه أن ينقلني إلى “الجهة الأخرى”، أنا وبذرتي لنحترق سوية.
2016-09-29