الرئيسية / مجتمع / ( قراءة في قصيدة من حجر البركين .. هذا المدى للشاعر شكري بوترعة )
الشاعر التونسي شكري بوترعة (رحمه الله)

( قراءة في قصيدة من حجر البركين .. هذا المدى للشاعر شكري بوترعة )

مطاردات محمومة لمديات البراكين

( قراءة في قصيدة من حجر البركين .. هذا المدى للشاعر شكري بوترعة )

الروائي والناقد عراقي سامي البدري

في فضاءات( مدى ) شكري بوترعة، نكون إزاء سلسلة غضة ومتراصة من إستيفاءات شاعر 
يقبض بإحكام على ناصيتيّ فنين متواشجين: الشعر وأدوات إستخدامه في تفجير طاقة السؤال، 
في جذره الفلسفي. شكري بوترعة، لايسعى إلى الشعر، ( كان علي أن أقول لا يبحث عن الشعر، 
ربما؟)، بل ينقر الشعر نافذة صومعته…. سعياً للحظة تفجره. بوترعة، الشاعر، يقطر من ندى 
اللغة صوراً لحجر الحكمة، في كور البراكين، ليقذفه شرراً متوقداً يشده العين والذائقة..، بحرفية 
الفيلسوف المتبطن، ويطرق اجتراحاته وفق اشتغالات تقانة التقابلات – المتعارضة، بأصابع من ثلج، وصلادة من ماس ..

من حجر البراكين … هذا المدى

إنه يحدثنا عن مداه، مدى الشاعر فيه، وليضعنا في مواجهة صورته التي تعرّش كغمامة، على أفقه .. فهو يدفع في وجه ذائقتنا صورة فاقعة عن حال ذلك المدى الذي يُحجِم إندلاعه، لأنه وبحكم قاطع لا تشبيه: (من حجر البراكين). 
ورغم قتامة الصورة التي يبثها عنوان شكري وسوداويتها، إلا إنها – من الناحية الفنية – تزدهي 
ببراعة صنعتها، ودقة إحاطتها بآفاق مقاصده، بإختيارها كمدخل للحظة ( إنتثار ) حمم النص 
وشواظ إشاراته وإحالاته. 
لنستعين بحكمة أول نقاد الشعر، سقراط الفيلسوف: ( الشعراء لا يكتبون الشعر لأنهم حكماء، 
بل لأن لديهم طبيعة أو هبة قادرة على أن تبعث فيهم حماسة). 
وهذه الطبيعة وحدها المسؤولة عن إثراء نص شكري بالصورة المتعارضة بتقابلها المتناقض والمتواشج..

أنجو من نوايا الندى في باطن الكف

الشاعر التونسي شكري بوترعة (رحمه الله)

من أمي، يوقظني حليبها من الموت

وأطرد عن صمتها ذباب المقابر

أغيب عن الوعي قليلاً

لاعرف اني نجوت…

وأثقب القلب لنمل أهملته سورة النمل

وإذ تتواشج الصور، بتعارضاتها الصادمة، يترى بناء تقابلات الأضداد في إشارات القصيدة 
وأسئلتها وتعدد مستويات إفاضاتها.. وشكري، الذي يُحكم قبضته على حضور المفردة الشعرية 
وإداءها؛ ينحت منها صوراً بإتساق إيقاظ حليب الأمهات من الموت! أو: الغياب عن الوعي: 
لأعرف أني نجوت! عن أي موت يحدثنا شكري الشاعر هنا؟ 
ما يناسبني في قراءتي هو موت الندى في نواياه، بمعناه المجازي طبعاً؛ وموت الندى في نواياه 
يعني تيبس بلله أو البخل به أو حرفه عن غايته، وحجتي عنوان النص..

من حجر البراكين.. هذا المدى

على قصد ( مدى النظر ) وليس الغاية، في ( هذا المدى ). 
ما يربكني، كقارئ، في التعاطي مع نص شكري هو أنه محكوم بلحظة دفق واحدة، كزفرة 
كثيفة مترعة بفيوض صورية محكمة البناء والغاية..، ولكن ضمن وحدة نفس القصيدة الواحد أو زفرته، وفزع اصطباغاته مطاردة محمومة… من يطارد الشاعر في غربته: الندى ، حليب الام، 
الوعي، النمل، لوركا… كلهم يطاردون الشاعر في غيبوبة صحوه عن فعل الحياة اليومي..، 
وحده الله من يهمل تلك الغيبوبة لانه..

يغار منا حين نقذف الأرض بعيداً… وننام!

إن إلتباسات التقابل في إشتغالات شكري، تشيع فضاءً مفتوحاً لتعدد خيارات الإشتباك والمزاوجة مع التفافاتها على قيد الحلول الواحد في بنية المعنى الإفتراضي الذي يخلعه المتلقي على النص. 
النص، أي نص، يُعبر عن تجربة… ومن منا الذي يجرؤ على الحكم بصحة تجربة شاعر أو عدمها؟ فأي تجربة تلك التي نزفت إلتباسات هذه المطاردة يا بوترعة؟

أنجو قليلاً من لوركا… يجرني من وريدي

إلى حانة… ينز بنا خشب توابيت (ها)

ونستأجر الأرصفة لجموع الصعاليك حين

يقفل جراحنا الملح وخجل الصبايا، من طيش دمنا

لنعود الى حكمة سقراط الفيلسوف: ( الشعراء لا يختلفون عن الأنبياء والكهنة الذين ينطقون بالكلام الحسن، دون أن يعرفوا ماذا يقولون)! 
إلا أن بوترعة يحسب خطواته بحكمة نبوية، لأن لوركا الشاعر الشهيد..

يجرني من وريدي (لا من يده)

وهذا يعني التساكب والمزاوجة والتغذية والتلاقح فكرياً وسياسياً، وأيضا في التصميم على فعل الرفض والمقاومة والمجابهة. وهذه الإحالة تفرض علينا قراءة سياسية متساوقة مع قراءتنا الأولى. وأيضا يحتم علينا الإنتباه لمرجعية ثقافة شكري السياسية والفلسفية، إنه يدفع إلينا إشارة ضياعه التالية..

مفاصلنا موانئ لا تحن لتراب…

وبحارة أهملتهم البوصلة.

وهذه الإشارة تحتمل معنى التأرجح في تحديد مرجعية الإنتماء الفكري، تحت قهر حراجة الوضع السياسي العام.

من حجر البراكين هذا الجسد الذي

تتطاير منه الشهوات

لم تزل بصماته على مقبض الريح

ومفاتيحه التي في القلب

لم تزل تعرف مزلاج الوطن

وهذه إنتقالة متممة لإحاطة نزيف القصيدة بكافة وجوه الإلتباس الذي يكتنف وضع الانسان، 
بوجه عام، في سيرورة الحياة في هذا الشرق الذي(إلتبست أرضه بسمائه) وهو يجرجر 
(سراويله الموحلة) على عتبة بوابة الحضارة الانسانية. فهل البديل في ما يقترحه الشاعر..

أنزح الآن من الدنيا (لاحظ التعميم الذي يزاوج كل الأمكنة في عملية الإلتباس السياسي)

إلى موجة ترعى قطيع الندى

في الفلاة

أ هذا هو البديل لحالة العجز – بسبب قهر الظرف السياسي لا بإختيار التخاذل – التي تواجهنا 
ونحن مجردين من أدوات المواجهة؟ 
من يتوفر على البديل المناسب فليقترحه علينا قبل الشاعر، لاننا جميعا نواجه المصير نفسه!

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي

أدونيس: تبقى بيروت صانعة الثقافة في العالم العربي هالة نهرا قُبيل أحداث غزّة التي شغلت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *