الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / الواقعي والغرائبي عند مصطفى لغتيري
الناقد المغربي محمد أقضاض

الواقعي والغرائبي عند مصطفى لغتيري

الواقعي والغرائبي عند مصطفى لغتيري

الناقد المغربي محمد أقضاض

هي الحلقة الثانية من سلسلة «بين ماكرو وميكرو سرد» في السرد الأدبي المغربي الراهن، حلقة تتناول بعض كتابات المبدع المغربي مصطفى الغتيري. ورغم أن المصطلحين، ماكرو وميكرو، مستعاران من المجال الاقتصادي، فإن استعارتهما دالة على التوسيع دون اقتصاد في اللغة حينا وعلى الاقتصاد والاختزال والتقليل في الكتابة واللغة والسرد حينا آخر… وهنا نقف من جديد أمام تجاور آخر بين نصوص طويلة ونصوص جد قصيرة، روايات ومينيقصص، تجاور يمثل مفارقة جمالية وزمنية وتداولية، كما رأينا في الحلقة السابقة. وهذه المرة مع كاتب مغربي معطاء في النمطين، هو مصطفى لغتيري… الذي من كتاباته، المستفزة للقارئ، رواية «ابن السماء» ومجموعة قصصية قصيرة جدا «مظلة في قبر». وقد صدرت الرواية المذكورة1 سنة 2006، بعد مجموعتين قصصيتين هما «هواجس امرأة»2، و»شيء من الوجل»3، ومجموعة قصصية قصيرة جدا «مظلة في قبر» سنة 20064، وبعد «ابن السماء» أصدر الغتيري خمس روايات، حسب علمي، هي «رجال وكلاب»5 و»عائشة القديسة»6، و»ليلة إفريقية»7، فـ»رقصة عنكبوت»8، ثم «على ضفاف البحرية»9 و»تراتيل أمازيغية»10…
أنقر هنا لتكبير الصورة
في هذه المقاربة أريد أن أقف عند رواية «ابن السماء» رواية صادمة بغرائبيتها، من خلال بطلها، ومستفزة بحدة واقعيتها، حيث تم إخراج الواقعي من الغرائبي، بذلك لا يمكن للقارئ وهو يتوغل في النص أن يتوقع ما سيأتي به الفصل التالي، ضمن الفصول العشرة التي تكون الرواية. ويعلن الكاتب عن نفسه في تعامله مع بطل الرواية «المنحوس»، ابن السماء، الذي فرض عليه السارد أن يعيش الحياة الدنيا مرتين، في المرة الأولى كان إنسانا عاديا ثم مات وصعدت روحه إلى السماء، وضمن مجموعة من أمثاله، بمنطقة انتظار في السماء إلى أن يحل يوم الحساب ليذهب أصحاب الجنة إلى جنتهم وأصحاب النار إلى النار، لم ينسجم ابن السماء مع غيره، في حديثهم هناك، بل كان يزعجهم بآرائه الغريبة، فشكوه إلى الله الذي قرر أن يرمي به مرة أخرى إلى الأرض، بعد أن ألبس له جسدا مناسبا وجرده من ذاكرته ورغباته وإحساساته تاركا له فقط القدرة على الكلام بلغات أية منطقة ينزل فيها. 

الروائي المغربي مصطفى لغتيري

حينذاك وجد ابن السماء نفسه يصارع أمواج بحر وهو متشبث بطافية، فأخذه ثلاثة بحارة في زورقهم، أعطوه أكلا وماء وثوبا لستر عورته، ثم تركوه على الشاطئ… فانطلق يضرب في الأرض.. وبعد مسافة طويلة، وقد أخذ منه العطش مأخذه، انتهى إلى جماعة من الناس قرب بئر على مشارف قرية، أثارت انتباهه فتاتان منبوذتان منعتا من سقي شياههن. اقترب منهما، أراد أن يدافع عنهن بقوته التي تزود بها من السماء، غير أن الجماعة أشبعته ضربا دون أن يدافع عن نفسه.. ثم حنت عليه الفتاتان وأخذتاه إلى المنزل حيث لا يوجد إلا أبوهما وهو شيخ ضارب في السن. رأت فيه الأسرة راعيا مهما للغنم ليريح الفتاتين مقابل كسرة خبز وكوخ صغير يأوي إليه ليلا… ثم تحركت شبقية لؤلؤة، الفتاة الأكبر، وتوسمت فيه زوجا فحلا، فتزوجته وأنجبت منه طفلا سموه إدريس على اسم جده الذي توفي في تلك الأثناء. تطورت الأحداث فقررت الفتاتان أن يبنيا له ضريحا يمارس فيه «كراماته»، التي خططت لها، خاصة، زوجته، تدخل إليه النساء ويحدثنه وهو صامت ثم يخرجن، لتفسر لهن «لؤلؤة» مضامين صمته، وتجمع الزيارات، وقد عرف بـ»سيدي الساكت». من هذا العمل راكمت الفتاتان أموالا طائلة.. 
ثم مات ابن السماء وازداد الضريح اتساعا وتطورا، ووسعت الفتاتان أملاكهما في القرية باقتناء أراضي شاسعة.. في هذه الفترة احتلت فرنسا المغرب فسارعت لؤلؤة إلى ربط العلاقة بالمستعمر من خلال ضابط فرنسي شاب استقر في إدارته قرب قرية «سيدي الساكت»، عشقته لليالي الحمراء ولقضاء مآربها الاجتماعية، وكانت أختها قد تزوجت بـ»علال»، شاب قوي وسيم ومعتوه انتقته من زوار الضريح، وأنجبت منه طفلا.. أما لؤلؤة، فبعد موت زوجها، انطلقت تستقبل ليلا بعض الرواد، فحملت وأنجبت طفلة دون أن تعرف من أبوها. وإمعانا في الفساد أضحت تستقبل، ليلا، الضابط الفرنسي الشاب، بل اقتنت أختها سلمى عمارة جعلتها عشا للدعارة تصطاد لها الفتيات من الضريح… وكي لا ينتبه علال طلبتا من الضابط الفرنسي أن يرسله، في الجيش الفرنسي، إلى جبهة الحرب بالهند الصينية، ليعود من هناك معطوبا، ثم تجليه زوجته من المنزل إلى أن مات شريدا… وتمكنت لؤلؤة من تعليم ابنها إدريس في فرنسا ليتخرج بشهادة مهمة وبمستوى وعي مرتفع ويستعد لينخرط في صفوف الحركة الوطنية ضد الاستعمار وضد مسار أسرته…

غلاف رواية (ابن السماء) لمصطفى لغتيري

الكاتب والقارئ: لطبيعة بطل الرواية، نسج الكاتب علاقة حميمة، خاصة مع القارئ، يشكو له من نحس هذا البطل المتمرد عليه، الذي جعله يقضى عشر سنوات وهو يكتب حوله ويمزق ما يكتب، ثم اهتدى إلى إيجاده وسط البحر. ولأنه بطل منحوس لم يستطع الكاتب، والسارد أيضا، من أن يلصقا به اسما يعينه، وإذا ألصقا به اسما فإن النقد السردي يتطلب أن يملآه بسيرة، أن تكون له ذاكرته وعواطفه وصيفاته، خاصة وأنه بطل مفروض على الكاتب والسارد أن يستمر وجوده في الرواية، بحيث لا يمكن أن يتخلصا منه بسرعة، لذلك تركاه «بلا ماض»، إنه جاء من السماء، هو حل أنقذ الكاتب وسارده من كل إحراج. غير أن الكاتب تقمص دور القارئ الذي لابد أن يتساءل عن كيفية وصول «هذا البطل إلى هذه الوضع..» فجاء من السماء، حينذاك لابد أن تكثر الاحتمالات حسب أنواع القراء. لم يجد الكاتب والسارد حلا آخر إلا أن يخرجاه من السماء… 
بشكل غير مباشر يقدم لنا الكاتب، خاصة في الفصل الأول، معطيات ميتانصية مهمة دالة على أنه يكتب روايته وينظِّر من خلالها لبعض أهم تقنياتها، فهو مدرك أن ضبط اسم شخصية روائية يحتاج لملء هذه الشخصية وبالذات إذا كانت رئيسية، ولابد أن يلبسها جسدا لأن «الجسد هوية»، ثم أن الشخصية في الكتابة الروائية لا يمكن أن تخضع بشكل مطلق لخطط الكاتب المسبقة، إن الشخصية بمجرد ما تنبثق كتقنية في النص تتخذ لنفسها مسارا يتخلى عما خططه لها الكاتب والسارد، فتوجد الشخصية بذاتها لذاتها، وتنكتب الرواية أيضا ببعض الاستقلالية عن الكاتب. ثم إن الكاتب يتجه مباشرة إلى القارئ/القراء لأنه يدرك أن كتابته تتجه إليه/إليهم أيضا، وبينهم قراء بخلفيات وآفاق انتظار مختلفة ومتضاربة. هكذا يجد القارئ نفسه يقرأ نصا روائيا وبعض التنظير لهذا النص. 
الغرائبي والواقعي: غير أن الكاتب فتح على نفسه أبوب التساؤلات التي يمكن أن تحرجه، حول هذا البطل، منها، لماذا أخرج هذا البطل إلى الحياة بعد أن شبع الموت؟ لماذا جاءت هذه الشخصية من السماء الأولى؟ وما حدود هذه السماء الأولى؟ لماذا لم تأت من العوالم السفلى كما نعرف في كثير من الحكي الشعبي والأساطير؟ لماذا رميت من السماء في البحر عارية وبدون ذاكرة ولا رغبات؟ ألم يكن من الممكن أن تنطلق هذه الشخصية من الأرض ومن خلال حياتها الأولى؟ أم هناك قصدية الكتابة بإشارتها إلى انبعاث البطل (بلا بطولة) من السماء؟ ما هي المهمة التي جاء من أجلها؟… تؤكد هذه التساؤلات مع الشخصية نفسها البعد الغرائبي في النص.. وإذا كانت الغرائبية لابد أن تتضمن عناصر من ما وراء الطبيعة، عناصر مفاجئة ومقلقة لأنها تحدث ارتجاجات غامضة فيما هو واقعي، فقد عرفت في الحكي الشعبي العجائبي وفي الأساطير كما أشرنا… غير أن الأدب الحديث اتجه أيضا، وبوعي حاد من الشعراء والكتاب، إلى ارتياد هذه الآفاق، وهذا ما نجده في رواية ابن السماء، كما وجدناه في نصوص أخرى كثيرة نشير منها إلى نص «التحول La Métamorphose»11 لكافكا الذي بدأ قصته القصيرة هذه بتقديم البطل حشرة… هو توظيف للغرائبي ضمن ما يعرف «بالواقعية السحرية Le réalisme magique» أو «الغرائبية الجديدة Le néofantastique». 
اكتسب هذا النص غرائبيته من طبيعة الفضاء، وهو السماء الدنيا من بين سبع سموات تعج بالحياة بشكل مختلف عن حياتنا، حسب الرواية، وقد اختار السارد أقرب سماء منها، هي السماء الأولى أو سماء الدنيا، في مكان ما من هذه السماء توجد قاعة انتظار واسعة جدا تتجمع فيها أرواح البشر التي تموت في انتظار يوم الحساب، هو فضاء مرتبط بالآخرة. من أهم ما يجعل هذا الفضاء غرائبيا أنه لا علاقة له بالواقع ولم يسبق لأي أن رآه إلا بالتخييل في بعض القصص الدينية أو عند بعض الكتاب العالميين أمثال المعري في «رسالة الغفران» ودانتي في «الكوميديا الإلَهية». وأنه فضاء غامض لا يمكن لا للقارئ ولا للسارد ولا حتى للكاتب أن يضبط حدوده وأهم صفاته ومحتوياته. ثم أشكال اتخاذ الأرواح فيه لأجساد جديدة حين تخرج من أجسادها التي تدفن في الأرض وتصبح فيما بعد عظاما رميما مجردة تقتلعها المياه من القبور أو يتلفها الأحياء، بعد أربعين سنة من مكوثها في التراب… ثم غرابة طبيعة البطل حين ينزل إلى الأرض، هي طبيعة شديدة الغرابة لأنه يقع بين هيئة «شبح» وهيئة «كائن إنساني حقيقي»، فهو شبح لعدم تمتعه بذاكرة حقيقية ولفقدانه للرغبات وهو في غالب الأحيان صامت… وكائن إنساني لأنه واضح الظهور يشتغل ككل الناس يأكل ويشرب وينجب… 
ولأنه نزل من السماء فمن المفروض أن يؤدي مهمة خيرية ويحارب الفساد والمفسدين، إلا أن السارد جعله كائنا مشلولا لا يؤدي إلا ما يؤمر به، فكان راعيا وزوجا بدون إرادته، وأصبح سيدا مرابطا ذا كرامات رغما عن أنفه، راكمت على ظهره زوجته، لؤلؤة وأختها سلمى، أموالا طائلة دون معرفته، ثم مات من جديد ليستمر الضريح، وكررت زوجته الجميلة سيرة أمها فتحولت إلى عاهرة ثم إلى خليلة للضابط الفرنسي وعميلة للاستعمار، تحقق مصالحها الخاصة على حساب الوطن، إنه تدنيس واضح لشخصية سماوية… لم يكن لابن السماء أي دور إيجابي، إلا إذا اعتبرنا خروج ابنه عن سلوك أسرته واستعداده، بعد تعميق تعلمه بتوجيه من الضابط الفرنسي، ليكون شخصية وطنية في مواجهة الاستعمار… يبدو أن السارد يريد أن يؤكد السلبية الحيادية لهذه الشخصية السماوية، ويلصق بها بعض صفات الدونكيشوتية..
وعلى ظهر هذه الشخصية الغريبة حقق النص واقعية اجتماعية صارخة، من خلال أسرة صغيرة من ثلاثة أعضاء هم فتاتان وأبوهما الشيخ، بعد موت زوجته التي اشتغلت، قبل أن تتزوجه، تعشق الرجال وتعيش معهم لياليها، الأمر الذي جعل أسرتها تهاجر من القرية، وجعل القرية تحقد على المرأة ثم على أسرتها وتنبذها، وقد سارت الفتاتان على منوال أمهما، استغلتا زوجيهما، ابن السماء وعلال، في جمع الأموال ثم تخلصتا منهما. ووسعتا أملاكهما باستغلال فقر أبناء القرية والقرى المجاورة، وخوفهم من المحتل، بإفساد بناتهم وأبنائهم… وتهيأتا ليكونا، مستقبلا، عميلات ووسيطات بين المستعمر وتلك القرى، وحين بدأ التحرك الوطني ضد المستعمر كان إدريس، ابن هذه الأسرة، قد أصبح مثقفا وحاملا شهادة علمية عالية ومهمة، وهو متذمر من سلوك أسرته قرر أن ينخرط في الحركة الوطنية… فنتوقع طبيعة من سيتحمل المسؤولية بعد الاستقلال… كان من المنتظر أن يصلح ابن السماء تلك الأسرة، غير أنه، بحياده السلبي، ساعد بعمق على الفساد والإفساد، وكأن الأرض أضحت تتحكم في السماء وتشركها في آثامها. وقد حققت تلك الآثام تاريخها، من قبْل الاستعمار إلى أواخر أيام الاستعمار.
فيجد القارئ نفسه أمام زمن واقعي تاريخي ممتد من بداية القرن العشرين، حسب التخمين، إلى نهاية الأربعينيات، وهو زمن تداخل مع أزمنة غرائبية غامضة، زمن السماء، مثل الفضاء، فضاء واسع، البحر، القرية وما بينهما، وفضاء السماء مرتين قبل أن يرمى منه ابن السماء وبعد أن التحق به صهره إدريس. في كلا التقنيتين، الزمن والفضاء، يتحرك السارد العالم والكائن في كل مكان قبل الشخصيات، ويحرك الأحداث والشخصيات ويستبطن دواخلها، بطريقة واعية تكاد ترتبط بقدرية خاصة متحكمة في حركية أهم الشخصيات…
هذا البناء النصي الغريب وتلك التقنية في إخراج الواقعي من الغرائبي، خلال هذه الرواية، نجد تشظيه في بعض المنيقصص، خاصة ضمن مجموعة «مظلة في قبر». ونقف هنا عند مينيقصتين، هما «لعبة» و»قمر».
في «لعبة»، ضمير مذكر، هو شخصية، ينظر إلى السماء فتثيره سحب تتحرك على طبيعتها لا يتحكم فيها شيء، وتتجلى في أشكال مختلفة… ولابد أن أذكر هنا أننا حين ننظر إلى السماء نستعطفها ونلتمس منها خيرا، وحين تتلبد السماء بالسحب نرجو أن تغيثنا بالمطر، غير أن النص يصدم أفق انتظارنا بقلب الآية، حيث تلذذت نفس الشخصية بجعل تلك السحب لعبة يشكلها حسب رغباته، وأضحت عجينا بين يديه يشكل بها «رأس كلب» و»أذني حمار» وهي ألعاب سحرية معروفة في البلد من أجل تحقيق أغراض وقضاء مآرب، و»خارطة إيطاليا» التي تمثل الحلم المطلق للشباب… فحوَّل النصُّ السماءَ وما تتلبد به إلى لعبة، وربما رأت هذه الشخصية أن السماء عاجزة على تشكيل حياتها فبادرت إلى اللعب بها.
ويمكن أن ننتهي في هذا النص، إذا حاولنا تأويل عباراته وملء فراغاته، إلى نتائج مقلقة، نتائج تتمم ما رأيناه حول ابن السماء في الرواية. كل جملة في هذه المينيقصة تعمق صدمة أفق انتظار القارئ. فالقارئ ينتظر من الشخصية، وهي تنظر بعينيها إلى السماء وتتأمل السحب فيها، أن تفعل شيأ ليس هو ما فعلته، وهو أن تلعب بالسحب والسماء معا، ننتظر ابتهالا واستعطافا. أدت حركة العينين دلالة مفارقة في الحقيقة حين نظرتا إلى السماء، وحسب المنطوق الخفي للعبارة، لم ترتفع العينان وإنما نزلت السماء إليهما، ولم تنظرا إلى السحب وإنما لمستها اليدان، ولأن السحب مطواعة في الشكل فقد أصبحت ممتعة ومسلية باللعب وإعادة التشكيل، شكلت بها اليدان واقعها وحلمها. انتشت الشخصية بهذا التمكن بالسحب، والسحب هنا ليست سحبا حقيقية، والسماء أيضا، هما بعض الأوهام المهيمنة على ذهنيات الشعوب أو بعض جماعاتها، أو هما حقا سحب وسماء غير أن الإنسان أضحى بإمكاناته العلمية والتكنولوجية قادرا على أن يتلاعب بها وينتشي، وتصبح السماء، بما فيها، لعبة.
هكذا تبدو الجمل الست في المينيقصة منطوية على عمق أسطوري، فيه كثير من الوهم والحلم بالنسبة للإنسان الضعيف ماديا وعلميا وتيكنولوجيا، كما تنطوي على حقيقة واقعية من خلال تحكم الإنسان القوي العالم والمصنع، هو التلاعب بالسحب وارتياد أقاصي السماء ومعرفة كثير من أسرارها، ومعرفة الشيء يعني امتلاكه، كما هو معروف… بهذه المفارقات يستفز النص التخييل ويحرك الذاكرة ويثير العواطف، ويرمي بالقارئ في أعماق الحكي الشعبي وبالأساس في أجواء الأسطورة، ويبين الهوة العميقة في المعرفة بين البشر في العصر الحديث، وفي نفس الوقت لا ننسى، من خلال كل هذا، المسحة الساخرة من السماء رغم سموها ومن السحب رغم عطائها. فيلتقي النص في عناصر دلالية عديدة مع الرواية، حين يتعلق الأمر بدور ابن السماء.
ولعل المينيقصة التالية، المعنونة بـ»قمر» في المجموعة المذكورة، تتمم بعضا مما أثارته الرواية نفسها. مينيقصة بخمس جمل، اختزل الجزء الأول من الجملة الأولى زمن احتلال فرنسا للمغرب، واختزل الجزء الثاني من الجملة كل ما مارسته في المغرب من تنكيل ومناورات وتحايل وكل ما أغرقته فيه من وعود عرقوبية تجلت في الهدية/الوهم، فقد أهدت لنا قمرا، وهما، باعتبار القمر لا ينال لأنه يوجد في أعالي السماء، أي أهدتنا خدعة. أما الجملة الثانية فدالة على سذاجتنا (المغاربة) وسرعة تصديقنا للوعود إذ فرحنا وتسلينا بالهدية الملغومة التي قدمتها لنا. وتؤكد الجملة الثالثة الخديعة وانخداعنا، فقد انسحب القمر بل وانطفأ أمامنا، ولم نكتشف ذلك إلا بعد انسحاب فرنسا، من خلال الجملة الرابعة، فعرفنا بعد رحيلها أنها لم تهد لنا إلا ظلاما، في الجملة الأخيرة، لأنها أخذت معها زر أو سر ذلك القمر فأضحت تتحكم فينا من بعيد بإشعال القمر أو بعدم إشعاله. 
لا يحتاج القارئ أن يكرر النص كل ما فعلته فرنسا خلال استعمارها للمغرب، تكفي هذه الإشارة السريعة في كلمتين، لتتداعى الأفكار والذكريات الأليمة، خلال حوالي نصف قرن، وتكفي ثلاث كلمات لنعرف مناوراتها وأكاذيبها وتلميعها لكل ذلك كي تخدع بعض المغاربة وترهب البعض الآخر، وتكفي أيضا ثلاث كلمات لنعرف عمق وسرعة انخداعنا بخططها. وتكفي جملتان أخيرتان كي نكتشف سذاجتنا وانخداعنا، بعد فوات الأوان، ونعرف أن فرنسا حين انسحبت بقيت تتحكم فينا.. لقد تسلى الشعب بقمر توهم أنه مضيء لامع في السماء، بينما هو قمر منطفئ، تماهى انطفاؤه بانطفاء وعي الشعب، فأدى القمر دلال مضادة لحقيقته، وملائمة لواقع الشعب الذي يتسلى به… لذلك لم يكن هم هذه المينيقصة أن تقدم لنا واقعا مفصلا بل همها أن تستفز ذاكرتنا وتحرك ذهننا وتنعش خيالنا وتصدم أفق انتظارنا، لعلنا نتعظ ولا ننخدع مرة أخرى…
بهذا العمق تحقق المينيقصة شاعريتها بتكثيف المجازات وتحويل النص إلى رمز متعدد الإشارات والمفاهيم، وبهذا التقتير اللغوي الحاد استطاع أن يستخرج مكنونات ذاكرة وذهنية وعاطفة القارئ المغربي، وبهذه العبارات القليلة أخرج اللفظ من ميثاقه المعجمي ليتحرر ويتخذ له مفاهيم جديدة، فالهدية ليست هدية والقمر ليس قمرا والتسلي ليس كذلك… والزر ليس زرا. وبطريقة خاصة في تنسيق العبارات حقق ذلك الإيقاع المثير، إيقاعا داخليا بتكرار أصوات عديدة، مثلا… وإيقاعا خارجيا بتكرار ضمير الغائب المذكر، «هـ»… وفي عمق هذا العمق الشعري، ينزوي جو عجائبي سريع الظهور، من خلال الهدية ومن خلال التسلية، كالأطفال، ومن خلال سحْب سر الهدية… وتمتد مؤشرات القصة ببدايتها المختزلة وعقدتها، اختفاء القمر، ونهايتها، أخذها زر التشغيل، وهي نهاية لا يمكن توقعها. وبشخصياتها أو الفاعلين فيها التي تهيمن فيها فرنسا بوجودها في البلاد وبهديتها لنا وبجلائها وأخذها زر إشعال القمر الذي أهدته لنا. وهذه النحن، الدالة على الشعب، والقمر تحكمت فينا الفاعل الأول المهيمن… وبزمنها المستفاد من صيغة الأفعال ومضمونها. وفضائها غير المحدد، الذي لا يمكن أن يكون إلا المغرب. ولكن إذا أردنا أن نشكل جسد القصة من خلال تلك المؤشرات ربما احتجنا إلى تسويد أسفار…
غير أننا لابد أن نعود إلى اهتمام القاص بالسماء من جديد، هنا بالقمر، ألا يمكن أن يبقى القمر محايدا ويمتنع عن التملك والتحكم؟ لقد أبى السارد إلا أن يجعل منه لعبة سياسية في يد المستعمر يسلي به أمة، أو يخدعها به. إنه تحكم من بعيد بإشعال القمر أو بإطفائه، فيكون القمر، مثل ابن السماء ومثل السحب والسماء ذاتها، عاجزا عن الفعل بل فاقدا لأية إرادة، ونصبح أمام سخرية جديدة…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عن دار النايا ودار محاكاة بدمشق.
2 ـ منشورات وزارة الثقافة، سنة 2001.
3 ـ عن دار القرويين، سنة 2004.
4 ـ منشورات القلم المغربي. 
5 ـ منشورات افريقيا الشرق، سنة 2007.
6ـ عن دار النايا، سوريا، سنة 2008.
7 ـ عن افريقيا الشرق، سنة 2010.
8 ـ عن دار النايا، سوريا، سنة 2011.
9 ـ عن دار النايا، سنة 2012.
10 ـ دار النايا، سنة 2013,
11 ـ هي قصة مطولة كتبها كافكا سنة 1912، والقصة تسرد الحياة الجديدة غريغوار سامسا، الذي استيقظ في أحد الأيام وقد تحول إلى حشرة طفيلية.

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *