الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / الحَـنـينُ و مَـقَـاديــرُ أخرى .. الأديبة سعيدة تاقي

الحَـنـينُ و مَـقَـاديــرُ أخرى .. الأديبة سعيدة تاقي

 الحَـنـينُ و مَـقَـاديــرُ أخرى

الأديبة /سعيدة تاقي المغرب

سعيدة تاقي/ روائية من المغرب
سعيدة تاقي/ روائية من المغرب

 

 

“هي الأحرف ذاتُها، تكتُـبُنا إذ نكتُبُها.

فَـلْـنَكْـتُـبْها “الآن”، و لْنَترُك للماضي ما كَـتَـبَه.

يكفيه ما قد وَشَـمَـه فينا حين كَتَـبَـنا ذاتَ ولادة.”

بِـاسْــمِ الحَــنـيـن:

لست عاشِقةً للحنين. و سأشاطركم في هذا المـقـام بعضا من أسباب عدم عشقي له، حتى و إن شدوتُ مع فيروز في كل يوم هواه فيروزي: “أنا عندي حنين”.

أقول لست عاشقة للحنين، و أنا أدرك المسافات الممتدة بين غياب العشق و حضور الكراهة. فكلنا نميل إلى الحــنين في ظرف أو في آخر، و جميعنا نمارسه بِـتَـشَــفِّ زمنٍ بـائــد زال و انقضى ألـقُه في زمن مُستحْدث مازال طريّاً شقـيّاً يبحث لأحداثه و حوادثه عن موطئ نُضج. فلا أعتقد أنـنا نـحـيا الحـياة في كل أعمارنا دون أن نتشوَّق و نتشوَّف للآتي و دون أن نستعيد و نتشدَّق ما مضى. تلك لعبة نتـقـنُ إبدالاتها دوما في إصرار متواصل على تجاوز اللحظة الآنية.

ذاك بعضُ الحنينِ و الباقياتُ الصالحاتُ تستلهمها انفعالاتُـنا استطراداً لحياة أو درءً لنقص أو ادعاءً لحكمة.

فما من حنين سلـيم الـنـوايا خـالص الـذمة. هو خـيانة للـحـاضر باسـم الوفاء للماضي، أو هو رحيل نحو “الهناك” و عزوف عن “الهنا”، إنه سفر في عمق الزمن دون أجهزة تحكُّم عن بعد، لآلة اقترفـنا آثامها و أسميناها “الذاكرة”.

أَسْـرَى الأَمْـس:

قَصص و حكايات عديدة تُسَـيَّج وجودَنا قبل الميلاد، قبل الأسماء و الألقاب و الكُنْيات. فمسقط الـرأس مجـرد مُـفـارَقـة وُجـوديـة ابـتـدعْناها بفـائـض رغبة في الـتحكّـم و التسيـير و التقـيـيد و التوثيق، كي نحدِّد بدايَـتنا، و كأننا بالفعل “نُوجَد” علي قيد الحياة دون سوابق تاريخية أو خلفيات سوسيوثـقافية أو مرجعيات إيديولوجية أومحدِّدات جيوسياسية أو خواص جينية أو جينيالوجية.

مِنْ “أبصَرتِ النور سنة كذا” إلى “ازدادَ عام كذا” تحتفلُ الحياةُ بالأرقام الجديدة التي نُدِّونها بالأيام و الأشهر و السنوات، لكنها تنحتُ كذلك ضِمناً عبورَنا الإضافي، فالنور سابق في الوجود لعتَمَتِـنا الوليدَة التي تستشرف البصر، و الازديادُ نموٌ و تقدُّمٌ و توسُّعٌ و تكاثُـرٌ فيه المُزدادُ حَصِيصٌ (من عدد و كمية وجسد و روح) ينضاف إلى الحصيص المتراكَم قبل ولادته. لأجل ذلك تندغم ملامح الجد و العمة و الخال و ابن الخال في وجه “الـوليد” الجديد، و تتماهى ملامح “الوليدة” المُزدادة و ملامح الجدة الأولى من جهة الأم و ملامح الجدة الثانية من جهة الأب و ملامح الأم و الخال و…

لكن بعيدا عن قسمات الوَجه و مقادير النَّسَب و النِّسَب و وُسْع الذاكرة، نحن لا نحيا “عُبُورَنا الإضافي” في الحـياة و للحـياة، صـفـحاتٍ بيـضاءَ صافيةً من أي خدْشٍ أو توقيع أو وشم أو ترميم أو ترقيع. و المولودة أو المولود مهما ولدا على الفطرة في ظاهر الطبيعة، إلا أن الثقافة و التصنيع تلْحقُهما في جزيئيات الجسد و الروح و العقل و القلب عبر ما يحفل به الوسط المُوَلِّدُ و المُنْتِج و المُصَنِّعُ و الذاكرة الاجتماعية و الجماعية و الجَـمْعِيَّة، بل إن التكوين البيولوجي الذي في صلبه معطى طبيعي ليس بريء الذمة وفق ما تؤكده الأبحاث العلمية المتلاحقة في الشفرة الوراثية و الجينوم البشري و تكنولوجيا فك التسلسل في الطب التجديدي وهندسة الأنسجة و علم الأحياء الجزيئي، حيث علوم الإحياء و الكيمياء وجهان لهندسة واحدة.

إننا نَصْنَع بناتِنا وأبناءَنا قبل أن نُولَد نحنُ، أو قبل “أن يُصَنِّعوننا” أولئك الأجدادُ البعيدون القدماء و أولئك الأجداد القريبون الجُدد و الآباء و الأمهاتُ في أعقابهم.

الغُـرْبَة الوُجُـودِية:

قد يكون الحـنـين في أبعاده النـفسـية الفـرديـة قوَّة َجذب للفرح المُفتَقد، تتجاوز مُنْجَز النَّدم إلى استدعاء لحظات انـتـشاء أو فـوز أو حـب أوضحـك أو وِصـال. قد يكون استـعادةً لبـيـت الطفـولة الآمـن و المستـقر و المُسالِم و لـزمـن الـصفـاء و الـبـراءة و راحـة الـبـال. لأجل ذلك يـنصح عـلـماء النـفـس و اختصاصيوه باقتناص لحظات السعادة و الصفاء قدر الإمكان، كي تغدو تلك اللحظات لاحقا ما ترمِّمُ به الذاكرةُ في فسحات “النـوسـتـالجـيا”  تصدُّعاتِ العُمر المُقبِل و ثَغراتِ أحزانه.

لكن الحنين لا يلوح في سقـف فـوضى المـشــاعر إلا في عــمق الإحـــساس بالـضـياع أو بالحـزن أو بالحرمان أو بالافتقاد أو بالاغتراب… إن الحنين تَكْمِلَةٌ لفراغ وجودي يتجاوز الأمكنة و الأزمنة إلى تقدير الذات لذاتها. ففي كل حنين تكمُن “أزمةُ” هويَّةٍ تتلطَّف و هي تكتسحُ الأجواءَ، فتجعل الماضي المارق مرفأ أمان لم يُتِحْه الـحـاضـرُ المُقـيـم.

إن تفويت اللحظة/الراهن لصالح لحظة مُستعادة من زمن قد ولى يغدو في الممارسة الاجتماعية و الثقافية و الجَمْعِيَّة لـ “مجتمعاتنا” و “جماعاتنا” و “أمَّـتِـنا” ارتكانا إلى الماضي “البـائد”؛ ذلك “العصر” الذهبي الذي احتـضن كلَّ الجـمـال و الـرخـاء و الـسـلام و الـنُّـبـل و النــقاء و الاستقامة و العلم و الفكر و الإبداع و التَقَدُّم.

إن الحنين ـ حينها ـ و هو يتحوَّل من ممارسة فردية في مجتمعات “الآخر” تستكين إليها النفس المُتْعَـبَة للتـرويـح عن كآبتها أو إحباطها العابِـرَيْن، إلى مـمارسة “جَـمْـعِـيَـة” سـائـدة و متواصلة و متوارثة في مجتمعاتـ “ــنـا” “نحن” يغدو ارتِـهـانـاً لانهائـيــا للوقوف على الأطلال و البكاء عليها. و قد يغدو ـ في مستوى أخطر نواكبه بوجع و حسرة ـ ارتهانـاً إلى مقايضةِ الحياة بالموت الرمزي الذي قد أفضى بالبعض مِـ”ــنـا” ـ هنا و هناك و هنالك ـ إلى استشراف “جنَّات الخُلْدِ” و “الحور العين” و “أنهار الخمر المُصفَّى” بتنفيذ حُكْمِ إيقاف حياتهم الدنيا لصالح أخراهم، و تطبيق “حُكْمِ” مصادَرَة حياة من يروه في “جهادهم” لا يستحِق الحياة رغم أنها عطية الخالق لأولئك و أولائك.

فمِمَ سـنَـفِـرُّ و إلى أين؟. فلا الزمن لنا، و لا الأرض لنا، و لا هويتُـنا مكتملةُ الأركان معافاةُ الروح صافيةُ الامتداد.

حِساباتُ النِّسـيان:

في منتصف الطريق بين الفرد و الجماعة، و بمعزل عن ذلك المشترَك الذي يرسُم الأفرادَ و ينحتُهم على مقاس الجماعة التي تشكِّل المجتمع و تستقيم لاحقا ملامحَ لهويَّة مميَّزة بما لها و بما هي له من وجدان و موقف و فكر و تسيير و لغة و مصير، تلوح التربيةُ و التنشئةُ الاجتماعيتان مدارَيْـن للإنـتاج و إعادة الإنـتـاج و الـتـرويـض و الـتـدجـين و التنميط، أو مدارَيْنِ للتدوير و إعادة التصنيع والاستغلال و الإصلاح و التعديل و التغيير.

إن الحنين تلك المتعة الحزينة التي تؤاخي في لحظة واحدة بين زمنين تقْـتَصُّ فيها للماضي “الأجمل/الجميل”من الحاضر”الأقل جمالا/البشع”، لا تمرُّ ـ في غياب الوعي المركَّب بالحالة و اللحظة و الوضع ـ دون خسائر في التربية. إنها تردِمُ و تنسِفُ في الأعـمال و الآمال و الـمآل الهـوةَ الطبيعية بين الأجـيال في الواقع و الاحتمال و الافتراض؛ فيغدو الحنين وضعاً عاماً، و يصبِح التقدُّم في العُمر المعتاد و الطبيعي ـ في ظل اقتراف “الحنين الجَـمْـعِي” ـ حالةً أوليَّـةً و عامَّة من أعراض “الزهايمر”. فالذاكرة البعيدة تشتغل بقدرة فائقة لتستعيد بصفاء “ذكريات نوستالجية” باختيار يتقصَّد كُوَّات الضوء في التجربة الحياتية السابقة اللامعة. أما الذاكرة القريـبة فتـتـضاءل مـساحـتها و تـضيـق اسـتحـضاراتها و كُوَّاتها. و كأن الحـيـاة كانـت في الماضي و للماضي و من أجل الماضي، في حين ليس الحاضِرُ سوى تَكْـمِلَةٍ على الحاشية التي تركها متنُ الزمن السابق الأجمل.

و على الرغم من كون العلم الحديث أثبت أن الحنين حالة طبيعية و ليست وضعاً مَرَضِيّـاً مثلما كان تقـدير ذلك سائداً في أوروبـا قـديـما، إلا أن الإصرار على إيـقاف الصيـرورة و تجميد الزمن و الهروب إلى الماضي و إعادة إنتاج ذلك الهروب جيلاً بعد جيل يصبح شكلاً من أشـكال “الـرِدَّة” أو”الانتكاسة” في أبعـادهما الثـقـافـية و الفكرية والاجـتماعـية و السـياسـية و الحياتية و الوجودية.

و تغدو لغة اليأس و الرفض و القنوط من كل حاضر أو مستجد أو مستحدث في مجتمعاتنا أمرا نَمَطيّـاً، يعزِّز حالة “الفُصام” التي تضَعُ الإنسانَ بين ذات و هوية كانت له “تاريخياً” و “وجودياً” يشرئب إليها بفؤاده و نظره و فكره، رغم أنه واقعياً لم يعِشْها، بل “رأى النور” بعدها بأكثر من ثلاثة عشر قرنا، و بين ذات و هوية يحـياها حاضِراً/راهناً لكنه لا يراها صافيةَ المنزلة و التـقدير و “التقـديـس”. إن الحنين بعضُ يأسٍ نَمَطِي تتفاوت درجته و حدَّته، يعيشه كل من يعتقد بديمومة و أبدية تحديد “خير أمة أُخرجَت للناس” مُفْـرٍغاً ذات التحديد من كل “تَسْدِيدٍ بالعَمل الصالِح”.

أنا لا أعشق الحنين، و لن أعشقه و هو يكتسح مجتمعاتنا بكل فئاتها بصرف النظر عن شريحة العمر. إنه يغلِّفُ لحظتـ”ـــنــا” و  واقعــ”ــنــا” و شبابــ”ــنــا” و لغـتـ”ـنـا”، و يضع الحـاضـر (حـاضـرنـا) في مفـترق طـريق عـويص تـتـداخل فيه وجْهاتُ “الـذات الـكونية” و “الخـصوصية الهـوياتيـة” و “المُكـتَـسب الـرَّقمي” و “الـتنميط القيمي” و “ثقل الماضي” و “سرابية الحاضر”.

هل عليـنا أن نـأمل في الأخـيـر ألا يلـوح في أفـق مستـقـبلـنا يـومٌ نَحِـنُّ فـيه إلى هذه اللحظة الراهنة المارِقَة دون أن نقتـنصَها؟

على ما يبدو هو تساؤل استشرافي. لكنه في فِكْرِ اللغة تَـلَـبُّسٌ مكشوف و “آثم” بالارتحال نحو الآتي..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ روائية و باحثة جامعية من المغـرب.

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *