الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / “مستقبل اللغة العربية في ظلّ تحدّيات العولمة”

“مستقبل اللغة العربية في ظلّ تحدّيات العولمة”

مستقبل اللغة العربية في ظلّ تحدّيات العولمة”

الكاتبة ناتالي الخوري غريب / لبنان
الكاتبة ناتالي الخوري غريب / لبنان

يُحيلُ العنوانُ مستقبل اللغة العربية في ظلّ تحدّيات العولمة إلى موضوعٍ لا نراه جديدا بالنسبة إلى مشرحة النقد والتحليل، وإنما الجديدُ فيه هو طريقةُ التفاعل معه في ظلّ كلّ مرحلة، حيث تقترح كلّ مرحلةٍ فهمًا جديدًا وربّما تُمثّل تحوّلاً في مسرى الرؤية إليه، وهي رؤيةٌ ذاتُ زوايا متنوّعة، وغير ثابتة أبدًا، وذلك بسببِ طبيعة المستقبل ذاته، إذْ هو يتسارع نحونا ليصير في كلّ لحظةٍ من لحظاتنا واقعًا راهنا، أي حاضرًا معيشًا، ولا شكّ في أنّ هذه الراهنيّة هي التي تُخْضِعُ فهمَنا لمسألة مستقبل اللغة لمُوجِباتها ولشروطِ قراءتها بأدوات مختلفة.
في ظلّ هذه التحديّات الكثيرة، ومنها العولمة وما وفّرته من سُبُلِ انفتاحٍ كونيٍّ على الثقافات والحضارات في جنسياتها غير المتجانسة، يكشف لنا المشهد الثقافي العام -في غزارة إنتاجيّته وامتداد دائرة المهتمين به من غير المتخصصين، وتخصيص الكثير من معارض الكتب والإصدارات والندوات لمناقشة تحوّلاته- عن أنّ اللغة العربية المتجسّدة في إصدارات تنطق بها وتُخْبِرُ عنها وتحكي هواجس المتكلمين بها وتعبّر عن طموحاتهم، إنّما هي الآن بخير، وهذا لا يعني أنّي أساوي بين غزارة الإنتاج المكتوب بالعربية وبين مستوياته اللغوية.غير أنه لا يمكن لنا أن نتغافل عنه كمؤشّر مهم يدلّ على تزايد عدد المهتمّين به، في ظلّ وجودِ تحدّ آخر، هو الصراع المستديم بين المقلّدين والمجدّدين، وهو ليس مبحثنا اليوم، ولكنّه موضوع مطروحٌ على طاولة البحث الدائم، فمن يقيّم الإصدارات الجديدة انتقادًا ممزوجًا بالتجريح أحيانا هم أبناء الجيل الذي يتبع التقليد ولم يتقبّل الحداثة بحلّتها الجديدة التي تناسب تطورات العصر…

أصالتنا الثقافية واللغوية
هذا لا يعني أن نُهْمِل المَتْحَ من مَعينِ أصالتنا الثقافية واللغوية، قطعا لا، وإنما نحن نرنو مع ذلك وبه أيضا إلى حداثة تكون سبيل العربية إلى تجديد ذاتها وآليات نمائها. علينا أن نتوقف عن الاستهتار بالصوغ اللغويّ الجديد، لأنّه لا يهدّد اللغة العربية بل على العكس من ذلك، إنه يُجدّد من دمائها. إنّ التغييرَ حتميٌّ في الحياة، وهو في اللغة ضرورةٌ، ولن تشكّل تراكمات الألفاظ المستَحْدَثة في اللغة أو الوافدةِ عليها عبئًا ثقيلا يحدُّ من حركتها، بل هي تضفي عليها نكهة العصر بكلّ هواجسه وتطلّعاته الجديدة، لأنّ أبناء المستقبل لديهم رؤى تختلف عن تلك التي لنا الآن، وهم سيختارون للتعبير عنها ألفاظًا قد تخالف كثيرًا من ألفاظِنا الراهنة.
كلّنا يجمعنا الهمّ الوجودي العامّ، والمآزم الإنسانيّة التي تَطُولُ العالم، غير أنه بانفتاحنا على هذا العالم ما عاد الأمر مقتصرا على همّ محلي وفكر محليّ، بل إنّ من نتائج التراكمات العلميّة والأدبية والتراثية أنْ صار لدينا قاعدة واسعة ننطلق منها في التجريب والتطويع والتصنيع، إذا لدينا آفاق جديدة نرنو إليها ليس حكرًا على معجم معيّن وتراكيب معيّنة.
تداخل اللغات غنى وثراء
إنّ ما يخُشى منه في إماتة اللغة العربية -كتداخل اللغات مثلا- ربما صار علينا الآن أن ننظر إليه كغنى وثراء، لأنّه يجعلنا نعمد إلى تعريب هذه المصطلحات إن لم نكن منتجين لها، أو يُجبرنا على أن نكون منتجين لها ولدلالاتها في مجالات العلوم والاختراعات.
وما يخشى منه أيضًا على أنّه يهدّد مستقبل اللغة العربية -كاستباحة نظمِ اللغة العربية عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي- نستطيع النظر إليه نظرة إيجابية، وذلك باعتباره عامِلاً يُشجّع الجميع على الكتابة بالعربية والسعي إلى تحسين صوغ عباراتهم وتراكيبهم عبر الاطلاع على كتابات غيرهم من المكرَّسين، أي المشهود لهم بنظافة لغتهم وأصالتها، وعبر الإبحار في المواقع المخصّصة لنقل أبيات شعر تراثية وحداثوية وصحف تنقل المؤتمرات وكلمات الندوات وغيرها.
وهناك مؤشّر آخر يُظهر أنّ العولمة تسهم في تطوير اللغة، وهو مؤشِّرُ تنامي الترجمة، ذلك أن الروايات المترجَمَة والمعرَّبة، تسهم في إغناء معجم لغتنا وإثراء اشتغالِها الدّلالي، إذْ بالرواية المترجمة إلى اللغة الأجنبية نصدّر فكرنا، وتراثنا وتقاليدنا وهواجسنا، ونشجّع كتابنا بأنّ هناك أُناسًا آخرين مهتمون بمنجَزاتهم الفكرية والإبداعية. وبالرواية المعربّة، نحن أمام تعرّف على فكر آخر، ولكن بلغتنا نحن، وهنا يكون العمل على استنهاض مقدرتنا اللغوية في تحديد الفروق الثقافية وتخيُّرِ الكلمات الأنسب للتعبير عن سياقات النص الأول، وهذا العمل بحدّ ذاته يسهم في كشح الخطر عن مستقبل العربيّة.
ثمّة أمور كثيرة يمكن الحديث عنها، منها، عمل دور النشر في الرقابة، أو عمل الدولة في إرسال مراقبين، عبر وزارة الثقافة…
كذلك، كثرة الالتزام بقواعد اللغة قد يمنع عنها الحياة، لأن اللغة كائن حيّ ينمو ويتغذّى ويحتاج إلى تجديد كي لا يترهّل ويموت، فاللغة بنتُ الحياة تتجدّد بتجدّد الوقائع.
خطر ضمور فعل القراءة باعتباره مُحيلا إلى ضمور نموّ اللغة، لأن القراءة تواصل مع اللغة يُصَفّيها ويضيف إليها.وهنا يجب علينا العمل في منحى آخر ويصبّ الكلام حينذاك على معالجة أزمة القراءة.

القيت في ندوة اللغة العربية في ظلّ التحدّيات، الجامعة اللبنانية، كلية الآداب، الفرع الثالث/ طرابلس

ـــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر في جريدة الأنوار

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *