الرئيسية / ثقافة / مقالات ثقافية / الفهم للعالم ومرآة الذات العالقة في رقصة العنكبوت

الفهم للعالم ومرآة الذات العالقة في رقصة العنكبوت

الفهم للعالم ومرآة الذات العالقة في رقصة العنكبوت

للروائي المغربي مصطفى لغتيري

الناقد عبد الحفيظ بن جلوني/الجزائر
الناقد عبد الحفيظ بن جلوني/الجزائر

1.
ليست الرواية على الدوام هي ذلك الاختلاق الحدثي غير المسبوق، وإلا كان فن الحكي يأخذ مسارا يجعل من الموضوعة المعالجة من قبل التعدد الرّؤيوي مللا سرديا، وليس تعدّدا للرّؤيا الحكائية، وضمن هذه الرؤية لتعدّد الموضوعة في التناول الروائي، تتمحور رواية “رقصة العنكبوت” لمصطفى لغتيري، حيث أثث مشهديته الراصدة لحالة الفنان التشكيلي، والحالة الشائعة للشاذ جنسيا، ذي المال، والذي يتحرّش بأحدهم، فيكون إما الرّفض أو الاستسلام للنزوة، هي حالات سردية تجمّلها طرائق الحكي وتوالدات المخيال، والرّواية الحال، ترتسم في مدار الرّؤيا المختلفة لتينك الموضوعتين عن طريق اللغة القريبة من وعي الرّوائي ببيئة تنفر من الناشز وتلازم الوجداني، وهو ما جعله يهمّش السلبي وينتصر لموضوعة الحب في علاقته بمنى.
2.
ينحت لغتيري معالم الشخصية ونقيضها لينسج فضاء الرّواية الدال على قصديات معيّنة تحيل على مرجعيات وخلفيات إيديولوجية، تمنح بعضها نهوضه النّافر وتكشف عند بعضها انكساره المريع، فشخصية والد منى اليساري المناضل من أجل القضية، تقابله شخصية البرجوازي الشاذ الذي يتمركز حول ذاته ليحقق شهواته التي ترتسم في أفقه العالق بين عالمه المغلق كفضاء للسعادة، وهو يشتغل في الحياة من منطلق التمركز الذاتي، فيزيّف في اللوحات الفنّية، ويبيع المقلّدة منها على أساس أنّها أصلية، “فالفرد البرجوازي يميل إلى سهولة الحياة وليونتها، ويبحث عن الجو الذي يتوفر له فيه هذا النّوع من الحياة”، كما يقول د.محمد مصايف، فالسيد حسن كما وصفه السارد: “بدا متألقا بملابسه الزاهية الباهظة الثمن..”،/ص85 والمظهر أساس في عملية تقديم البرجوازي ذاته للعالم، لأنّ البرجوازية ذاتها فكرة مظهرية، فالقلّة التي تتمكن من الثروة تحاول أن تكون متميّزة، بينما نجد العكس عند الإيديولجية المنهمكة في ترميم الانكسار المجتمعي، فهي منفتحة على الواقع غير عابئة بالذات، فوالد منى “المبادئ الكبرى كانت محرّكه في الحياة..”، وفي المقابل قد يحتمل الشذوذ في الرواية قصدية غياب المبدأ عند البرجوازي، مقارنة بما يميّز والد منى من “الحيف الذي لاقاه من طرف النّظام رغم ما يحمله من حب للوطن”/ص33.

الأديب والكاتب مصطفى لغتيري/ المغرب
الأديب والكاتب مصطفى لغتيري/ المغرب

3.
العلامة الفارقة في الرّواية هي الحبيبة “منى”، التي تمثل الأفق المضيء الذي يرى من خلاله السارد (يوسف) الحياة، فالعلاقة لم تكن نزقية بقدر ما كانت مترابطة مع المبدأ الواصل للحياة بالإيديولوجيا الكاشفة لمناطق الارتباط بالمجتمع، فمنذ البداية يقدّمها السارد على أساس المبدأ: “رأيتها من بعيد تحمل في يدها اليسرى كتابا..”/ص16، وللعلامة “اليسرى” دلالتها الأيديولوجية المرتبطة بالهم الإجتماعي، مما يحعل موضوعة الحب في الرواية اجتماعية بالضرورة، وهو ما لا يخرجها من وجدانيتها العميقة في تواصلها مع النبض الخلاق في القلب الإنساني، لأن الحب وشيجة تدفع الشخص إلى الإنغماس في الذاتي، لكن في واقع الأمر هو يتحرك في الحياة ليجعل كل شيء يشهد على حبه، وهو ما تتقن الرّواية الإشارة إليه في تكثيف الدلالة في ربط شخصية “منى” بوالدها: “كثيرا ما كانت منى صدى لأفكاره”/ص31، أي ربط الحب بالحياة/المبدأ.

4.

غلاف رقصة العنكبوت
غلاف رقصة العنكبوت

تشتغل رواية “رقصة العنكبوت” على منظومة أسماء آملة، تفتح الدلالة فيها المعنى على الحياة، (منى، حسن، هدى، خالد، سعيد)، وهو ما يتعالق مع عتبة العنوان، المنغلقة على معنى “الرّقص”، بما يقدم دلالة الفرح، فالعنكبوت التي جاء ذكرها في العنوان وألحقت بها صفة الرقص تم التقاطها سرديا في فضاء الحلم، بما يعني تأويل رؤيتها، فالعنكبوت: “صغيرة، سوداء اللون، تتحرك برشاقة داخل اللوحة”/ص80، لكنّها في ما بعد تتضخم إلى درجة أنها تصبح عنصر تهديد بالنّسبة لذات السارد في حلمه، وهو ما تمّ تأويله سرديا مما لحق به من خلال ممارسات السيد حسن الشاذ جنسيا، لكن وصف يوسف لحركتها الوظيفية فوق اللوحة يجعل لها تأويلا تفرضه الضرورة القرائية، يقول السارد: “كدت لأول وهلة أظنها جزءا من الرسم.. لكن حركتها الدائبة ، وهي تنسج شبكتها الرفيعة أطاحت بهذا الظن”/ص80، فالظن الذي يُلحق العنكبوت باللوحة، هو ذاته نشاز الشذوذ في شخصية حسن حين يربط ذاته بجمالية التشكيل، لكن حركة العنكبوت وهي تنسج شبكتها، تكشف عن الدلالة في افتراق المسارات في نهاية الرواية بين المبدأ لدى يوسف والأنانية/النزوة لدى حسن، “إلى الجحيم، لا تفكر أن تتصل بي مستقبلا..”/ص92..
5.
عندما نقرأ جملة البداية في الرواية “أنا أعبر الشارع..”/ص5، وجملة النهاية “ثم انقطع الإتصال.”/ص94، يتملكنا إحساس الحركة، فهي مجسّدة في البداية، لكن، وكأنها توقفت في النّهاية، فالبدايات دوما أفقها مفتوحا، والشارع يحتضن الحركة اللانهائية للذّوات الفاعلة والباحثة عن بصمة وجودية، لكن عقبات الواقع وإكراهاته تبعثر الحلم في الحركة وتحفر عميقا أخاديد للتعثر، لكسر وجهة الحلم الإنساني في ارتياد أفق الحركة، ولعل العنوان يختزن هذه الدلالة في الحقلين الدلاليين المختلفين، فالرقص يفتح دلالة الفرح بينما العنكبوت تكشف عن المأساة والنشاز، ففرح الحركة يقابله وجوديا مأساة الانقطاع والتعثر، وثنائية الفرح والمأساة، ترد في الرواية عند تقاطعات حساسة، مثلا في العلاقة بين منى والسارد، وبداية اختلاف مساريهما، أيضا، في انتشاء السارد وهو يسمع ل”بوب مارلي”، ثم انغطاسه في الحلم/الكابوس.

إن “رقصة العنكبوت” تمثل ذلك الهاجس الذي كان يبحث عنه نيتشه في ذاته، حيث كثيرا ما كان يستعمل هذا التعبير: “حتى أقول ذلك في لغتي”، ولغته هنا لا تعني انتماءه الجغرافي، بل تعني في عمقها محاولة الذات قراءة الكون وكينونته في مرآتها العالقة بين هواجس قراءة العالم ومحاولات فهمه، وكذلك تحاول الرّواية من خلال برمجة العتبة العنوانية على دلالة “الرقص” الناتج في حقل “العنكبوتية”، تحاول فك شيفرة الفرح الذاتي خلال توترات الوجودية الناشزة، لأن الذات تهرّب العالم بكل انكساراته ونهوضاته، فرحه وحزنه، مأساته وملهاته، لتجرّب ذاتها في مواجهة جوهر الحركة في الحياة، أي تحاول قراءة العالم من خلال “اللغة”/الذات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقصة العنكبوت- مصطفى لغتيري- دارالنايا سوريا 2011

 

عن الخبر ال واي

شاهد أيضاً

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ

“سوسْطارَة”… الحَفْرُ فِي عَوَالم الظِلّ مقالة الروائي الكبير واسيني الأعرج عن ” سوسطارة”، لروائية حنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *